خريطة مدرسة حكومية

علي سعد الموسى
وقفت ملياً في حديث مثير مع ذلك التربوي اللامع ونحن نلتقط "طفلينا" من أمام بوابة المدرسة الابتدائية الخاصة. كانت جمله تتوالى استغراباً لاختياري مدرسة خاصة لتعليم ابني الأكبر رغم مقالاتي المتعددة عن عيوب التعليم الخاص. أما أنا فأعدت وجه الغرابة إليه لأسأله عن أسباب خياره الشخصي رغم ما يزيد على ثلاثين عاماً من ممارسته العمل التربوي في المدارس الحكومية بين التدريس والإشراف والعمل الإداري. كان سؤالي: هل زادته خبرته الطويلة مع مدارس القطاع العام ثقة في هذه المدارس أم يدفع بابنه مثلنا إلى بوابة مدرسة خاصة على طريقة أهل مكة أدرى بشعابها؟ وهل ضاقت لديه كل الخيارات فلم يجد مدرسة حكومية مناسبة من بين العشرات المنتشرة في شوارع المدينة مضافة إلى نفاذه ونفوذه الذي يمكنه من اختيار المقعد الذي يريد في المدرسة التي يشاء؟
كان يعلم أنني شخص لا تنطلي عليه حيل التمرير وحبال التبرير ولم أكن أيضاً بالذي سيقبل منه "تجاوز المنطق" ليبرر أداء المدارس الحكومية من موقعه الرسمي خصوصاً وقد قبضت عليه متلبساً بالتهمة في مدرسة خاصة. ولهذا أيضاً كان مباشراً وهو يصف الوضع في أقرب مدرسة حكومية إلى منزله وكيف عجز عن أن يغير خريطتها العامة. يقول: سحبت ولدي من هذه المدرسة بعد اليقين أن الطلاب فيها مجرد رزق وظيفي لمعلمين كانوا محظوظين جداً بآباء لا يعلمون نوعية التعليم الذي يتلقونه في هذه المدرسة أو غيرها من المدارس. يواصل: كخبير تربوي، أدرك جيداً أن المدارس في المدن الكبرى "مسكونة" بطواقم هائلة من المعلمين القدامى الذين ركنوا إلى المكان فذابت فيهم روح المثابرة والحماس وطرائق التدريس الحديثة التي نجدها في المعلم القادم للتو إلى حقل التعليم. لكن هؤلاء الجدد يذهبون بحسب النظام إلى الأرياف والمدارس النائية. المعلمون في المدن لا شغل لسواد كثير منهم سوى "الانشغال" بما اكتسبوه من رزق من سنين الوظيفة ولهذا استرسل صاحبنا في خريطة المدرسة المجاورة: معلم الرياضيات العتيق مشغول بسوق الأسهم وصالات البنوك التي تستقبل شهرياً عشرة آلاف وافد جديد إلى هذه السوق جلهم بالإحصاء من طبقات المعلمين الكبرى مع اعتذار للمؤرخ الشهير. أساتذة الجغرافيا يوظفون مهارات التخصص في معرفة مسالك البلد وشوارعه التجارية والسكنية ولهذا يعمل ثلاثة منهم في مكتب مشترك للعقار بالتناوب.
الغريب أن المكتب مفتوح حتى في الصباح. مدرس العلوم المجتهد يوظف الدرس للحديث عن مآسي الأمة ويتكلم عن أي شيء إلا عن معادلات الكيمياء ووظائف الأعضاء ونواقل الحرارة الفيزيائية.
عدد قليل من المعلمين لا يحضر طابور الصباح في احتجاج جيل مؤدب على "بعض الأناشيد" التي لا تليق بظروف الأمة لأن فيها تكريساً للهم المحلي على حساب الهموم العامة المشتركة للخريطة الأكبر.
احتجاج هؤلاء يبدو منه الباطن بينما الظاهر الصحيح أنهم يتأخرون عن الطابور لأنهم مشغولون بتدبير أمور "العمالة المكفولة" وتوصيلهم إلى مقار أعمالهم نيابة عن الزوجة التي تمتلك السجل التجاري الذي يعمل به الزوج على طريقة خيركم خيركم لأهله: غداً نتواصل
http://www.alwatan.com.sa/daily/2**4.../writers01.htm