-مقال وصفي (2)


بينما كنت جالسةً على شاطئ الرمال الذهبية أحدق في تلك الأمواج المتلاطمة وأرى ارتطامها بتلك الصخور هذه ، وتلك الأصداف مبعثرة من حولي وخيوط الشمس الذهبية تعانق تلك الأمواج وتحمل معها أشواق المحبين...
وأرى السفن تشق البحار وتجول بين شواطئ تلك البلدان وهاهي تلك الرياح تعانق شراعها المنصوبة وتدفعه بهمة إلى الأمام فأتذكر ما يتردد على مسامعي من كلمات معلمتي وهي تدفعني للمثابرة واقتحام بحور العلم والغوص وراء عميق مكنوناتها....
أما جناحي النورس وهما يصافحان السحب سحابةً بعد الأخرى ويمضيان مودعين فيذكراني بأيامي الماضية
ووداعي لأحبائي في مراحل عمري المختلفة...
ولما حل الغروب وأحاطت بالكون حمرة الشفق تذكرت أن الختام آت ولابد من لحظات الوداع فتمنيت لو أني أمسكت بإحدى خيوط الشمس و أرحل معها في الفضاء الكوني اللا محدود..
ما أجمل أمواج البحر الساحرة !! تمنيت لو أنها تأخذني إلى عالمها وأهيم مخلفةً حولي هموم هذه الدنيا الوضيعة

ولكن..

ماكل ما يتمنى المرء يدركه****تجري الرياح بما لا تتشتهي السفن

:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::::::::::::::::::
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::::::::::::::::::

10-مقال نقدي


يقول أبو الطيب:
ي**;ُدف**;ّنُ بعضنا بعضاً ويمشي
أواخرنا على هام ِ الأولي

ويقول أبو العلاء المعري:
خففِ الوطء ما أظ**;ُنُّ أديم الأرض إلا من هذه الأجسادِ

ويقول عمر الخيام (ترجمة أحمد رامي):
خفف الوطء إن هذا الثرى
من أعينٍ ساحرةِ الاحورارِ

إذن: فكل من الشعراء الثلاثة خاض تجربة الموت، والدفن، ورأى القبور، وتصور حال
من حلّوها.

فأبو الطيب شاعر حاد النظرات قاسي القلب عاش حياته وغبار المعارك كساؤه وصليل السيوف حداؤه، والحياة عنده للقوي، ولا حظ فيها للضعيف، ومنظر الموت والدفن مألوف لديه. فإذا تفحصنا تجربته الشعرية نجدها تجربة شاعر فارس يخوض المعارك فإما قاتل أو مقتول، فإذا انجلى غبار المعركة وكان من الناجين لم يأبه لما وراء ذلك، وهذا واضح في بيته الذي أوردناه آنفا.
انظر إليه كيف وظف الكلمات لتجسد تجربته الشعرية، يقول: "يدف**;ّن" ولم يقل "يَدْفِن"؛ فهذه الشدة على الفاء تكشف لنا عن قلب قاس وعين جامدة، ويقول "بعضنا بعضا"؛ نعم هكذا أبناء لآباء، وآباء لأبناء، وأعداء لأعداء، من بعض لبعض، ويقول: "تمشي"؛ أي تستمر مسيرة الحياة ولا تتوقف، وما طبيعة هذا المشي إنه مشى سريع شديد الوطء مشي على الهام (الرؤوس) فآخرنا يدوس على أولنا قد شغلته الحياة عن النظر إلى من سبقوه وأصبحوا ترابا.

وتستطيع أن تقول إن المتنبي كان واقعيا ولكنه كان قاسي القلب لا مكان للعاطفة الإنسانية في قلبه، ولا يعني هذا أن المتنبي لم يكن يألم كما يألم الناس، ولكن تجارب الحرب جعلت منه أنموذجا للشاعر الفارس الفيلسوف.

وإذا انتقلنا إلى أبي العلاء المعري ذي المحبسين الذي ضاق بالحياة والأحياء وتشكك فيها وفيهم، اعتزل الناس بعدما رأى ما رأى منهم، اتهم العلماء والفقهاء بله التجار والسفهاء.
انظر إليه كيف يقول: "خفف الوطء" وهذا انعكاس لحاله، فهو الضرير الأعمى الذي يتحسس طريقه يخشى أن يصطدم بجدار أو يهوى في حفرة، "خفف الوطء" لا تمش مختالا
تدوس هام الورى. "ما أظن أديم الأرض"ظنه يكاد يكون يقينا ولكنه لم يبلغ ذلك "إلا من هذه الأجساد" هذا القصر وهذا الحصر يوحي لنا بأن شاعرنا كان يجيل ذلك في فكره فتارة يهتدي، وتارة يضل، تارة يعتصم بالدين، "منها خلقناكم وفيها نعيدكم" (طه. 55) فهذه الأجساد من التراب وإلى التراب، وستبلى وتتحول ترابا، فلا يليق بنا الاختيال، ولا يليق بنا التكبر، وعلينا أن نسير متواضعين فلم التكبر وقد عرفت النشأة، وعرفت المنتهى؟!

وننتقل إلى شاعر الفرس عمر الخيام، الشاعر العالم رأينا له نظرة تشبه نظرة أبي العلاء إلا أنه يزيد عليها لمسة من جمال كان ثم بان، فهل هذا التصوير الرائع للشاعر أم للمترجم أم لكليهما؟ إنه لكليهما.. للشاعر الذي ابتكر المعنى، وللمترجم الذي وظف الألفاظ هذا التوظيف الدقيق. فإذا انتقلنا من مصراع البيت الأول إلى مصراع الثاني، نجد شاعرنا والترجم قد بلغا أوج التجربة الشعورية. "إن هذا الثرى من أعين ساحرة الاحورر". الثرى الذي ندوسه بأقدامنا ليس من الأجساد فقط، فإن بعض الأجساد تستحق أن تداس بالنعال والأقدام معا. أما الأعين الساحرة فلا - فرفقا بالقوارير - ورفقا بالجمال.

هذه نظرات تجلت لي وأنا أتأمل الأبيات الثلاثة ما اتفق من معانيها وما اختلف، ويتبين لنا أن التجربة الشعرية جزء من نفس الشاعر، وهي الباب الذي نلجه لنطلع على مشاعر الشاعر وأحاسيسه، ومدى ارتباطه بالطبيعة وبالناس.

:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::::::::::::::::::::
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::: :::::::::::::::::::::