والشيء العجيب أن هذا الخلل الكبير في فهم مقاصد فقه الجهاد العظيم الجليل إنما يمارس تأسيسًا على فقــه البراء والولاء :

" وآذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم " 3 / التوبة

ولست أدري ..؟ البراء ممن .. ؟ والولاء لمن عند هؤلاء ..؟

أجل كل مسلم يؤمن بهذه الآية العظيمة , ويعمل بمضمونها وحكمها ودلالاتها .. ولكن الإشكالية القائمة هو في الفهم الصحيح لدلالات هذه الآية .. وفي الترسيم الدقيق لحدود البراء من الآخر .. وفي التحديد الدقيق لموضوع ومادة البراء من الآخر.

وفي هذا الصدد أرى أن الإشكالية الكبرى في مسألة البراء .. هي في التداخل المخل عند البعض.. بين حــدود دوائر العقيدة , والشريعة ,

والرسالة من دين الله تعالى .. نعم إن هذه الدوائر متكاملة ومتلازمة ومتمركزة حول دائرة العقيدة .. لأنها الأصل الذي يقرر صحة وسلامة ما بعدها :

" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "48 / النساء

" وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " 13 / لقمان

لكن هذا التكامل والتمركز بين دوائر العقيـدة , والشريعة والرسالة..لا يلغي الحدود الوظيفية الدينية لكل منـها.. فالعقيدة لها حدودها وأحكامها وأصولها ومعاييرها.. والشريعة لها حدودها وأحكامها وقواعدها ومبادئها وضوابطها .. وكذلك الرسالة لها مقاصدها ومعاييرها وضوابطها .. فينبغي أن توضح هذه الحدود وظيفيًا وتخصصًا .. مع المحافظة على روح التكامل والتلازم بينها في إطار وحدة الدين والمنهج العام للإسلام .

وعلى هذا الأساس من التحديد والترسيم الوظيفي والتخصصي لهذه الدوائر الثلاثة الرئيسة من دين الله .. أستطيع القول :

أن دائرة العقيدة والاعتقاد هي المسؤولة بشكل أساس عن مسألة البراء والولاء.. باعتبار أن أهل كل ديانة لهم معتقدهم الخاص بهم والمعتقدات هي أساس الاختلاف والتناقض بين الأديان .. فكل أهل ديانة يرون أن ما هم عليه من الاعتقاد , هو الحق الذي يدينون به إلى ربهم وإلههم الذي يؤمنون به , ويعتقدون بصفاته وأسمائه وأحواله .. وعلى هذا الاعتقاد تقوم في نفوسهم قاعدة البراء مما يعتقد به الآخر .. ممن ليسوا على ما هم عليه من الاعتقاد.. ومما يدين به الآخر من صفات الله وأسمائه وأحواله على خلاف ما يؤمنون ويعتقدون .. ونحن المسلمين شأننا في ذلك شأن كل أتباع الأديان .. فلنا اعتقادنا ولنا تصورنا الخاص بنا تجاه ربنا وإلهنا .. إما إن كان ذلك من حيث صفاته أو أسماؤه أو أحواله جلّ وعلا .. أومن حيث غيرها من قضايا الاعتقاد , وهذا الاعتقاد هو أساس البراء عندنا مما يعتقد به غيرنا مما يتناقض مع مقومات اعتقادنا .. وهــذه مسـألة جوهرية في دين الإسلام لا تحتمل المجاملة , ولا المساومة , ولا المداهنة , ولا تخضع لكل المغريات أو المكرهات :

" يا عم والله لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يسار على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه , ما تركته! " سيرة ابن هشام

" قل يا أيها الكافرون "

" لا أعبد ما تعبدون "

" ولا أنتم عابدون ما أعبد "

" ولا أنا عابد ما عبدتم "

ولا أنتم عابدون ما أعبد "

" لكم دينكم ولي دين " 1 ,6 الكافرون

" قل هو الله أحد "

" الله الصمد "

" لم يلد ولم يولد "

" ولم يكن له كفوًا أحد " 1 ,4 الإخلاص

أجل فالبراء في مسألة العقيدة والاعتقاد واضح وجلي وحازم عندنا مع من هم على خلاف اعتقادنا.. ولذا نحن المسـلمين نؤمن ونعتقد أن دائرة العقيــدة مغلقة الصلة بيننا وبين الآخر " لكم دينكم ولي دين " وهذا شأن الآخر تجاهنا كذلك .. فهو كذلك لا يجامل ولا يساوم فيما يعتقد ويؤمن .. لأن مسألة الاعتقاد هي أساس الاختلاف والافتراق والتناقض بين أهل الأديان .. *****لمون في ذلك على قلب رجل واحد ولله الحمد .. والبراء هنا هو براء من الاعتقاد الديني الذي يعتقده الآخر فحسب , وليس براء من إنسانيته ودوره في الحياة .. أو بعــــبارة أخــرى هو براء من الانتماء العقدي .. وليس براء من الانتماء البشري .. أو قل إن شئت براء ولاء وليس براء أداء وتعاون :

" فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون " 216 - الشعراء



يقول فضيلة ال*** العلامة عبد الله بن بية في كتابه الإرهاب :

" والحقيقة أن البراء مفهوم عقدي يتعلق بالولاء في العقيدة والدين والملة وهو الذي يكفر فاعله وينصر خاذله " و ويقول في موطن آخر من كتاب الإرهاب " ويقول :

"يكون البراء من الأعمال وليس من الأشخاص "

ويدلل على ذلك بقول الله تعالى :

" فإن عصوك فقل إني بريء مما تعلمون " 216 / الشعراء

وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " صحيح البخاري

فالبراء إذًا براء وجداني عقدي مما يعتقد الآخر ويعمل , وليس براء من انتمائه البشـــري , أومن التعاون معه في أدائه الحضـــاري الحياتي , فنحن والآخــــر شركاء في الأداء الحضاري , وشركاء في النهوض بمهمة التكليف الرباني للناس جميعًا " عمارة الأرض وإقامة الحياة " , لذا فإننا نؤمن أن دائرة المشترك مع الآخر تأخذ بالانفتاح والانفراج بعد دائرة العقيدة والاعتقاد .. فهناك مساحة مشتركة وواسعة للتعايش والتعاون والتفاهم والتنافس في رحاب دائرة الشريعة:

فالشريعة كما هو معلوم تتكون من قسمين رئيسين :

1.أحكام وقواعد تتعلق بالأحوال والشؤون الدينية الشخصية,

2.وأحكام وقواعد ومبادئ وقيم تتعلق بالمصالح العامة للمجتمع .

فبالنسبة للقسم الأول : المتعلق بالخصــوصيات الدينية والأحــوال الشخصية .. فالإسلام قد أعطى غير المسلمين في المجتمع المسلم الحق بأن يحتكموا في ذلك إلى شرائعهم .

أما ما يتعلق بالقسم الثاني من الشريعة : إي المتعلق بالمصالح العامة في المجتمع .. فالإسلام يقرر أن المواطنين في ذلك سواء في الحقوق والواجبات , وعلى هذا الأساس فإن المشترك الحياتي بين المسلمين وغيرهم في المجتمع المسلم واسع وكبير, ويتسع الأمر أكثر وأكثر .. بل يتحول إلى التعاون والتنافس المفتوح في فعل الخير بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات في ميادين الشريعة :

" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن لبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " 48 / المائدة

ثم يزداد الانفــراج والانفــتاح .. حتى يبلـــغ منتهاه في دائرة الرسالة ..

فمقاصد الرسالة الإسلامية جعلها الله تعالى لجميع البشر دون تمييز .. ومن مقاصدها :

1. إقامة العدل بين الناس ,
2. إقامة السلم مع غير المعتدين والباغين ,
3. حفظ حياة الإنسان ,
4. صون كرامة الإنسان ,
5. حفظ سلامة الأرض والبيئة وعدم إفسادها,
6. احترام حرية الإنسان ,
7. احترام ممتلكات وخصوصيات الأفراد والمجتمعات,
8. حفظ الأخلاق والآداب العامة بين الناس ,
9. صون حرية الفكر والاعتقاد,
10. عمارة الأرض والتشجيع على استثمار مكنوناتها وخيراتها ,
11. التعارف بين أتباع الأديان الثقافات والحضارات ,
12. التعاون والتنافس في فعل الخيرات,
13. التدافع بين المجتمعات لصرف الفساد وكبح المفسدين,
14. التراحم بين الناس ,
15. التساخر أو التنافع أو التخادم بن الأفراد والمجتمعات,
16. التضامن مع الفقراء والمرضى والضعفاء .
إن المتأمل لكل ما تقدم بشأن ترسيم الحدود الوظيفية الدينية والتخصصية لكل من دوائر العقيدة والشريعة والرسالة .. تتضح بكل يسر وعلمية وموضوعية .. ما هي أبعاد دائـرة البراء من الآخر .. مثلما تتضح مساحات المشترك معه .

والإشكالية الكبرى التي وقعت بها القلة القليلة من المسلمين .. أنهم وسّعوا دائرة العقيدة , التي هــــي مناط مسألة الولاء والبراء على حساب دائرتي الشريعة والرسالة .. بل إن بعضهم وسّع دائرة العقيدة حتى ألغت وطمست دائرتي الشريعة والرسالة .. وأصبحت نافــــذة العقيــدة وما يتبعها من أحكام , هي النافذة الوحيدة التي يطلون منها على الدنيا من حولهم .. وهي المعيار المطلق في التعامل مع الآخر .. ومن هنا نشأة مسألة التضخيم والغلو بمفاهيم الولاء والبراء .. وما تبعها عند أصحاب هذا الفهم من مبالغات وشطط .. أصبحت عندهم أساسًا عقديًا لما يصدر عنهم من أحكام وافتراءات .. ولما تقترف أيديهم من ممارسات حمقاء .. ولما وقعوا به من انحرافات وضلالات .. ولما يمارسونه من جرائم وانتهاكات ودمار بحق المسلمين وغيرهم .. وكل ذلك – للأسف – يمارس زورًا وبهتانًا باسم الإسلام .. وباسم الجهاد في سبيل الله .

ومن أخطر فتن هذا الفهم السقيم لمسألة البراء والولاء .. أن هذا النفر من المسلمين ذهب مذهباً خطيراً بشأن فهم مسألة الولاء .. حيث اعتبروا أن كل علاقة تقوم بين المسلمين أفراداً وجماعات ودول مع غير المسلمين ممن - باعتقادهم – يصح بحقهم واجب البراء منهم إنما هي علاقة ولاء وخضوع لغير الله .. وبالتالي فحكمهم – عندهم – هو البراء منهم ومعاداتهم ومن يصح بحقهم من الأحكام ما يصح بحق الكافرين والظالمين والمحاربين لله ورسوله .. يجب معاداتهم ومفاصلتهم واستباحة دمائهم وأموالهم وقتالهم , باعتبار أن دارهـم – حسب فهمهم - أصبحت " دار حرب " بسبب موالاتهم لأعداء الله.

" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " 51 / المائدة

وتأسيساً على هذا الفهم الأحمق استباح هذا البعض من المسلمين دماء إخوانهم المسلمين .. وممتلكاتهم وأموالهم وغيرها .

بقلم

أ . د . حامد بن أحمد الرفاعي
الأمين العام المساعد لمؤتمر العالم الإسلامي
رئيس المنتدى الإسلامي العالمي للحوار
من كتابه ( شركاء ... لا أوصياء ) الفصل السابع