خواطر حول الأزمة في التعليم.. رؤى قديمة لموضوع متجدد
---------------------------------------------------------------------
عبدالله الماجد
ليس من هدف هذا المقال، توجيه النقد المباشر أو الضمني، للسياسة التعليمية، أو التقليل من الجهود الجبارة، المبذولة في قطاع التعليم، فلطالما كان المسؤولون، من قمة الهرم حتى القاعدة، يؤمنون بأن الاستثمار الأمثل، هو في بناء الإنسان، الذي يمثل التعليم الجذر الأهم، في إعداده عضوًا فاعلاً، في بناء نهضة الأمة والمجتمع.وفي المقابل, فإن هذا المقال ? على قدره ? سوف يعرض لقضية التعليم كأهم قضية تواجه الدولة ? أي دولة ? وإذا ما نُظر إليها كأزمة، فإنها تكون أهم تلك الأزمات التي تواجه الدول؛ فهي أخطر وأهم من الأزمة النووية ? مثلاً ? أو قرار الدخول في الحروب، فتلك الأزمات تُحل بقرار، كمثل ذلك القرار الذي صدر بحق تدمير الرؤوس النووية لمئات الصواريخ، بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، في الثمانينات من القرن الماضي. بينما تظل قضية التربية والتعليم، قضية تنمية، تمثل دائمًا أزمة قائمة. ولقد بلغ من خطورتها وأهميتها، أن التقرير الذي صدر عن المجلس الدولي لتنمية التعليم Iced عام 1968، اعتبرها أزمة عالمية حيث صدر تقريره بعنوان (أزمة التعليم في عالمنا المعاصر), وجاء التقرير التالي له، الذي صدر في منتصف الثمانينات (1985) الماضية تحت عنوان (أزمة التعليم في العالم), وجاء عنوانه في الترجمة العربية (أزمة العالم في التعليم من منظور الثمانينات) (418) صفحة.وقد اهتمت معظم دول العالم بهذا التقرير، فترجم في حينه إلى معظم لغات العالم, ولم يحظَ ? وللأسف ? بأي اهتمام عربي، على المستوى الرسمي. وعلى المستوى الشخصي، اهتم به الراحل العلامة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز القوصي، فعهد إلى نخبة من تلاميذه بترجمته، هم الأساتذة: محمد خيري حربي، والدكتور شكري عباس حلمي, والدكتور حسان محمد حسان، وحينما قدمه إليّ، تحمست لهذا العمل ونشرته في حينه، ولم يكن قد مضى أمد طويل على نشرته الرسمية، وللأسف بعد وفاة الدكتور القوصي, لم نتمكن من متابعة صدور هذا التقرير، الذي يصدر تباعًا بعد كل فترة زمنية، يبحث فيها خبراء هذا المعهد في شؤون التعليم على مستوى العالم.يتضح من ذلك أن خبراء التربية والتعليم في العالم، ومنذ أن استقرت أركان العالم جغرافيًا وسياسيًا, بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى الآن، يرون أن التعليم لا يزال قيد الأزمة، فالتحدي المستمر لكل الجهود، التي تحاول إصلاح التعليم، يضع التعليم رهنًا لهذه الأزمة المتنامية والمعلنة. فالأسباب التي عرض لها تقرير الستينات، لا تزال هي نفس الأسباب, التي لا تزال تعاني منها أزمة التعليم في الثمانينات، وفي التسعينات، وكذلك في هذا القرن الجديد. من تلك الأسباب الرئيسية، التي أشار إليها تقرير (1968):
أولها: الزيادة الحادة في تطلعات الشعوب نحو التعليم.
وثانيها: النقص الحادّ في الموارد.
وثالثها: القصور الذاتي الكامن، في الأنظمة التعليمية (الذي أدى إلى البطء الشديد، في استجابتها أثناء تكييفها شؤونها الداخلية لضروريات خارجية جديدة، حتى ولو لم تكن الموارد المالية، هي العقبة الرئيسية في سبيل التكيف).
ورابعها: قصور ذاتي للمجتمعات ذاتها، (فالثقل الكبير للاتجاهات التقليدية، والأعراف الدينية، وأنماط المكافآت والحوافز، وأبنية المؤسسات، منعت هذه المجتمعات من الاستفادة المثلى من التعليم، ومن العمالة المدربة لمساندة التنمية القومية).ويذهب التقرير إلى حالة تشخيصية، أكثر تحديدًا وتركيزًا، مما يمكن تلخيصه فيما يلي:
1- إن المربين لا يمكن وحدهم، أن يصلحوا كل معوج من الأنظمة التعليمية؛ لأن الأزمة تشمل كل المجتمع، وكل الحياة الاقتصادية، وليس التعليم وحده.
2- إن أي محاولات لحل الأزمة، تتطلب بوضوح, نوعًا من التوافق والتكيف المتكامل، من جانب كل من التربية والمجتمع.
3- إن التفاوت المتزايد بين التربية والمجتمع، يمكن حتمًا أن يحطم إطار الأنظمة التعليمية، وفي بعض الأحيان إطار المجتمعات المقابلة لها.
4- تحتاج الأنظمة التعليمية، لكي تلعب دورها في مواجهة الأزمة، إلى مساعدة من كل قطاع، من قطاعات الحياة اليومية. وتحتاج أيضًا إلى كثير من المساعدات الإضافية، من مصادر خارج حدود أوطانها.ويوجه التقرير الذي صيغ في أواخر الستينات الماضية، النقد للأنظمة التعليمية، التي تتصف بالجمود، وقصورها الذاتي, على هذا النحو:
(يمكن للنظام التعليمي، أن يفقد القدرة على رؤية ذاته رؤية واضحة، فإذا ما تمسك بالممارسات العرفية، لمجرد أنها تقليدية، وإذا ما ربط نفسه بالعقائد الموروثة، لكيما يظل طافيًا على الماء في بحر من الحيرة، وإذا ما رفع الثقافة الشعبية إلى مرتبة العلم، ورفع القصور الذاتي إلى مرتبة المبادئ الأولية، فإن هذا النظام يصبح عارًا على التربية نفسها، ويمكن للأفراد الذين يظهرون مواهب أصيلة، أن يتخرجوا مع ذلك من نظام كهذا، لكنهم لن يكونوا من نتاجه، ولكنهم تمكنوا من البقاء بعد التخرج منه، بمعنى أنهم استطاعوا التكيف، ومغالبة الصعاب على الرغم من قصور التعليم).ينتقد التقرير كذلك، الأنظمة التعليمية (المستوردة)؛ لأنها في واقعها توفر في آخر المطاف، كوادر منتقاة من المتعلمين، تصلح للعمل في بيئات حضرية حديثة، لكنهم كانوا غير صالحين لتنمية الموارد البشرية الضخمة، والموارد الأخرى للقطاع الريفي التقليدي. حيث لا تزال هناك الأغلبية من الناس. وبانقطاع أولئك، وكأنهم أصبحوا في جزر معزولة، نتيجة لتعليمهم تعليمًا متميزًا، يحول بينهم وبين العمل في ميادينهم الواسعة، حيث استوعبتهم ميادين العمل في المدن. ومما جاء في هذا التقرير وبأسلوب واضح:
(الأقطار النامية بالذات، أساءت إلى نفسها مرتين، عندما استوردت أنظمة تعليمية أجنبية، صُممت لتناسب أهدافًا وظروفًا مختلفة اختلافًا تامًا، وكانت في الغالب أنظمة أكاديمية، خاصة بالصفوة، حققت أهدافها بنجاح في وقت سابق في مواطنها الأصلية، لكنها أصبحت متخلفة، بشكل متزايد في بيئة ما بعد الحرب العالمية الثانية سريعة التغير، وكان من غير الممكن لها بأي حال، أن تناسب الحاجات والظروف المختلفة أساسًا, ناهيك عن ضآلة موارد الدول النامية التي نالت استقلالها أخيرًا).وأرجو أن يلاحظ ? معي? القارئ العزيز، أنني كنت استعرض رؤية كُتبت في نهاية الستينات الماضية، وهي لا تزال تمثل الآن لب الأزمة التي يعاني منها التعليم، على مستوى العالم، وربما بشكل واضح في الدول النامية. وفيما لا تزال أعداد كثيرة من الطلاب، تقف على أبواب المدارس، بحثًا عن مقعد، وآخرون على أبواب الجامعات، فإن المشكلة ليست هي مشكلة الباحثين عن المقاعد الدراسية، ولكن المشكلة المقابلة لذلك، هي مشكلة مَنْ تدفع بهم المدارس إما إلى أبواب الجامعات، أو إلى سوق العمل، وكذلك مَنْ تدفع بهم الجامعات إلى المجتمع بعد تخرجهم، فليست القضية، هي مُجرّد الإحصاءات الكبيرة في مخرجات التعليم، ولكن أيضًا في مدخلات التعليم.
يتبع.....
|
|
المفضلات