ما الذي نريده من خطة تطوير التعليم؟
-------------------------------------------------------------
علي سعد الموسى*
تسعة مليارات في خطة تطوير التعليم، وفي ست سنوات. بمعادلة ابتدائية فالمرصود هو مليار ونصفه في العام الواحد. يأخذني شعور دائم للحساسية تجاه الأرقام الكبيرة ذاك أنها بضخامتها أكثر إغراء للقضم والنبش من الأطراف دون أن يشعر أحد بتأثر الكتلة. الرقم من رقمين واحد للمادة بالمليارات وثانٍ للزمن من سنوات ست. تأخذني حسابات الزمن البسيطة إلى تفاؤل مشوب بالحذر. أشعر، والأمر بيد الله، أنني قادر على استشراف نقطة الوصول بعد سنين ست لا لكي نقف معكم على الحكم بنجاح المشروع من عدمه بل كي أختبر يومها، والأمر بيد الله، أشياء أخرى سأقولها في حينه. من جوانب السلب في الوفرة المالية أنها تغطي على جوانب القصور. هذه المليارات التسعة في خطة تطوير التعليم كان لها أن تذهب في مكانها الصحيح لصندوق الفقر أو حساب احتياطي القادم من الأجيال، أو حتى في تطوير كماليات مثل الكرة وردم المستنقعات لو أن الذين تسلموا المليارات الهائلة في مسيرة التعليم من الطفرة الأولى حتى الأخيرة أحسنوا صنعاً واستمعوا واشتغلوا قبل أن نكتشف بالكاد أن القفزة الكمية في مجال التعليم لم تكن في المطلق بذات النوعية. خلال الفترة ما بين الطفرتين، ابتعثت وزارة - المعارف - سابقاً والتربية والتعليم حالياً مئات الخبراء إلى جامعات الكون في دراسات عليا في المناهج والتخطيط والإدارة التربوية حتى تكدست - وزارة الدكاترة - بمئات الألقاب العليا ولكن أين الثمرة؟ ما هي الأسباب التي دفعتنا اليوم إلى الاعتراف بالحاجة القصوى إلى خطة من سنوات ست بمليارات تسعة رغم المليارات التي صرفت على بنية بناء وتطوير التعليم والملايين التي صرفت بالتوازي على مئات الخبراء بألقاب الدكاترة؟ هذه الأسئلة المشروعة المشرعة ستبقى بلا جواب لأن الوفرة تقتل المحاسبة ولأن الطفرة - ضمناً - تجبُّ ما قبلها.في تدشين القطاعات التعليمية المختلفة لمشروع التسعة مليارات لاحظت نقطتين: الأولى أن المشروع بدأ بزفة إعلامية وحفلات استقبال وموائد للكتاب والصحفيين الذين حضروا إعلان التدشين. هنا بدأت أول قضمة، ولست ضد أن - يتحولق - الخلق حول مائدة ولكنني مرة أخرى أصبحت شديد - الحساسية - عندما أشاهد مسؤولاً يحضر لقاعة احتفال وهو يحمل الحاسب المنقول وبرنامج - البور بوينت. أحس أن هذا البرنامج الحاسوبي بالتحديد كان هو الكارثة بعينها لأنه مجرد إغراء - للزبرقة. لاحظت ثانياً تصريح المسؤول الوزاري أن المشروع يستهدف نظاماً تعليمياً يقوم على الاستقصاء والتحليل ويلغي نمطية الحفظ والتلقين السائدة. هذه هي الأسطوانة التبريرية التي تتكرر بالساعة منذ عقود من الزمن وهي بالفعل لب مشكلتنا المنهجية التربوية ولكن: من يعلق الجرس؟ فإذا كان هذا هو الهدف، وهو هدف صائب بالفعل، فالمسألة لا تحتاج إلى خطة عشرية ولا إلى مليارات تسعية. المسألة بحاجة إلى قرار شجاع، والهدف وتحديد مكمن الخطأ واضح لا يحتاج إلى سنوات ومليارات وخبراء. يدرس أطفالنا اليوم في مدارسهم آلاف الأوراق المنسوخة التي لا يمكن على الإطلاق هضمها وفهمها دون أدوات الحفظ والتلقين، أعطني مثلاً أي طريقة على الكون غير الحفظ الأصم، تحدد بها ولادة هارون الرشيد أو أنواع الفعل المضارع أو مقادير زكاة الأنعام أو حدود جمهورية النيجر. المشكلة أن كل المنهج الورقي مليء بآلاف الشخصيات وعشرات أنواع الفعل الإعرابية وكل دول الأمم المتحدة وكأننا معنيون بكل من في القبور دون تمحيص وكأن أطفالنا سيذهبون صباح الغد لمجامع اللغة العربية أو كأنهم سيذهبون غداً في قوات حفظ السلام على أطراف الدول الحدودية الملتهبة. كل آلاف الأوراق تستعصي على الاستقصاء والتحليل فما الذي نريده بالضبط؟
أولاً: نريد نظاماً تعليمياً يعمل برأسين وينهج مسلكين، نظاماً لكل الذين يعتقدون أن مؤامرة دولية تستهدف المناهج أو أن مفردة التطوير إملاء إمبريالي بحت. لهؤلاء، اتركوا ما شئتم من المقررات والأوراق وأضيفوا لهم ما يريدون من الحشو، ونظاماً بالموازاة يرتكز على الثوابت ولكنه يستشرف الأفق، نظاماً لا يدخله من الأوراق إلا ما كان ضروريا من الثقافة الإسلامية كارتكاز بنائي بجوار العلوم والرياضيات وتقنيات العصر والمعلومات وثورة الحاسوبات وضرورة اللغات، نظاماً يترك أخبار الوفيات والولادات وسيرة الطبقات ووثائق المجلدات وكل ماضٍ فات مجرد مادة اختيارية.
ثانياً: نريد طاقماً على الطاولات المسؤولة في الجهاز التعليمي يرتكن إلى الشجاعة في مواجهة أزمتنا التعليمية الخانقة ويواجه أيضاً قوى الضغط والاختطاف بذات الشجاعة. ذات الحقائق التي يعرفها معالي الوزير عن مشكلة التعليم وبذرة أزمته هي ذات الحقائق التي يواجهها الطالب ويعرفها في فصله الدراسي. يذهب الطالب للمدرسة وهو يعلم أن ثلاثة أرباع يومه الدراسي لا تأخذه إلى مستقبل ولا تضيف إلى رصيده معلومة جوهرية وأنه لا سبيل لديه كي يتوصل للعام الذي يليه إلا عبر وسائل الحفظ والتلقين وصولاً لساعة الامتحان. بعدها لا يهمه أن يمسح كل هذه الأوراق من الذاكرة لأنه واثق أن معلمه المباشر في ذات الأوراق أول من سيرسب لو أنه مطالب بالإجابة على ورقة امتحانه.
* أكاديمي وكاتب سعودي
http://www.alwatan.com.sa/daily/2**7.../writers04.htm
|
|
المفضلات