المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غلو أم اعتدال !


 


الزهراني كوم
28 - 3 - 2005, 12:55 PM
الأنشطة التربوية اللاصفية.. هل هي محققة للغلو أو للاعتدال؟
لم تعد المدارس مجرد مراكز لحشو أذهان الشباب بالمعلومات، ولم نعد - نحن التربويين - نقبل بنظرية الأواني المستطرقة التي جعلتنا نعامل طلابنا كما لو أنهم يأتون إلى مدارسهم كل صباح بجماجم فارغة ليملؤها المعلمون بالتساوي دونما أي اعتبار لما قد يكون بينهم من تباين في القدرات والميول والاهتمامات. ولو أن مثل هذه الممارسة التعليمية ترسخت في مدارسنا لتعطلت عقول أبنائنا ولسهل اختطافها.
إن التحدي الحقيقي الذي يواجهه التربويين اليوم يتمثَّل في تصديهم الجاد والمتصل لتطوير مناهج وخبرات تربوية وتعليمية تستجيب وبشكل متوازن وشامل لكل متطلبات جوانب النمو المختلفة لدى الناشئة وتتوافق مع حاجاتهم المرحلية، وهذا ما يطلق عليه التربية الشاملة. التربية الشاملة هي تلك البرامج المدرسية التي تُعنى بنمو اليافع نموًا متوازنًا شاملاً تتناغم وتتكامل من خلاله جميع جوانب شخصيته؛ فالنمو الجسماني لليافع، مثلا، يجب أن يتناغم معه نمو مواز في الجوانب الانفعالية النفسية، ويجب كذلك غرس وتعميق كل القيم والمبادئ التي تناسب المرحلة العمرية للطالب، وبموازاة كل ذلك لابد من تهيئة الفرص التي تمكِّن الشاب من تطوير المهارات العقلية التي تناسب مستوى نضجه الفكري والوجداني. وأخيرًا، لابد من تهيئة كل المواقف التي من خلالها يحقق الطالب ذاته ويكون صورة إيجابية عن نفسه. أن نمو جانب من جوانب شخصية الشاب على حساب جوانب أخرى سيحدث خللا في شخصيته واعوجاجا في سلوكياته واضطرابا في علاقاته مع الغير، وهذا ما لن يحدث لو أننا تعاملنا مع الطالب باعتباره كل متكامل يعزز بعض جوانب نموه بعضها الآخر في نسق متناغم ومتكامل.
النشاط اللاصفي وتكوين الشخصية
يجزم التربويون بأن النمو الشامل المتوازن لشخصية الطالب لن يحققه الدرس بمفرده، بل إن ما يتعلمه الطالب خارج قاعة الدرس لا يقل أهمية عما يتعلمه داخلها. لقد أصبح من الثابت أنه بدون النشاط اللاصفي المتقن التخطيط والإعداد والتنفيذ سيبقى تكوين وبناء الشخصية السوية المستهدفة مهلهلا وضعيفا.
حاولت هذه الورقة التأمل في بعض الأسئلة، ومنها: هل برامج النشاط - كما هي منفذه في المدارس - تتوافق مع الأهداف السامية (المعتدلة) للنشاط التي أعلنتها الإدارة العامة للنشاط الطلابي، وهل مارست وزارة التربية دورًا فاعلاً ومؤثرًا في تابعة وتوجيه برامج النشاط في المدارس لكيلا تخرج عن المنهج المرسوم لها، ثم ما مصداقية التهم التي يوجهها الإعلام أحيانا تجاه المراكز الصيفية، خصوصًا فيما يتعلق بدورها في نمو أفكار تدعو الطلاب إلى الزهد في الحياة وتجاهلها والانكفاء على أمور الآخرة. وأخيرًا، هل تفتقد برامج مراكز النشاط إلى الجهود التي تدعو الطلاب إلى احترام قيم التسامح والحوار وقبول الآخر.
تؤكد وزارة التربية والتعليم دائما أن النشاط اللاصفي ليس جزءًا منفصلاً عن العملية التعليمية، بل هو مكِّمل لها ويسهم في تحقيق أهداف تربوية تعجز الدروس النمطية الأكاديمية عن تحقيقها. النشاط الطلابي اللاصفي يعد أداة ناجعة تستخدمها المدرسة لتعزز دورها في إعداد المواطن الصالح. ولابد من الإشارة هنا إلى أن النشاط اللاصفي يختلف عن النشاط المصاحب للمنهج المدرسي الذي هو وثيق الصلة بالمنهج. النشاط اللاصفي لا يرتبط بالمنهج المدرسي ارتباطًا مباشرًا وصريحًا، ولكنه في النهاية يثري تحصيل الطالب وينمي تفكيره ويرتقي بمهاراته الحياتية ويصقل شخصيته. يقول المسؤول الحكومي الذي يباشر الإشراف على النشاط الطلابي: «لا يوجد برنامج من برامج النشاط الطلابي خارج منظومة سياسة التعليم، وهي سياسة تعتبر نموذجًا في الاعتدال والفهم الصحيح لهذا الدين العظيم»، ويؤكد المسؤول نفسه: «إن حب الوطن وتعزيز الانتماء إليه يعد هدفا تؤكد عليه جميع برامج النشاط اللاصفي».
من جهة أخرى تشير الوثائق الرسمية الصادرة عن وزارة التربية والتعليم إلى أن النشاط اللاصفي يستهدف جملة من الأهداف، منها: غرس مبادئ وقيم الدين الإسلامي وترجمتها إلى سلوك عملي، تعزيز الانتماء إلى الوطن، التدريب على مهارات التفكير العلمي الإبداعي والناقد، إتاحة الفرصة للطلاب ليمارسوا التخطيط والتنفيذ الحر، تعويد الطلاب على تحمل المسؤوليات، الكشف المبكر عن ميولهم ومواهبهم، تنمية قدرة الطالب على التفاعل والتواصل مع الآخرين وتعزيز تقديرهم لقيم التسامح واحترام الرأي الآخر. أنها أهداف تربوية سامية معتدلة، لكن ما مدى تحققها على الأرض.
لقد ثار جدل كبير حول قيام بعض المشرفين على النشاط باجتهادات فردية مخلة قد تكون أخرجت النشاط اللاصفي عن مساره الذي رسمته الوزارة، وهنا يدافع المسؤول عن النشاط عن هذا الاتهام بقوله: «أما اختيار المشرفين على النشاط فهو يخضع لعملية منضبطة، فالإدارة العامة للنشاط تنتقي الأساتذة المتميزين خلقًا وعلمًا للإشراف على تنفيذ برامج النشاط، وفي هذا الشأن يتم غالبا التنسيق مع إمارات المناطق والمحافظات، ويزودون بقوائم تحوي أسماء القائمين على المراكز الصيفية ويتم التفاهم معهم عند وجود أي ملاحظة». وفي الاتجاه نفسه يذكر المسؤول عن النشاط: «أن برامج النشاط اللاصفي تسهم إلى إشباع حاجات الطلاب وتستثمر طاقاتهم في النافع المفيد، ومن دون هذه البرامج سيصبح الطلاب فريسة للأفكار المنحرفة والسلوكيات المعوجة التي تضر مجتمعهم».
النشاط اللاصفي رؤية رسمية
وجهة نظر وزارة التربية تجاه النشاط اللاصفي تؤكدها أيضا أحاديث للأمين العام لإدارات التعليم، نشير فيما يلي مقتطفات منها: «أشعر بمزيج من السعادة والأمل عندما أتصفح أخبار المراكز الصيفية»، «احتضنت هذه المراكز أكثر من مائتي ألف شاب كان من الممكن أن تحتضنهم الشوارع»، «إن المشرفين على هذه المراكز لا يبحثون سوى عن المكافأة الإلهية والاحتساب». وأخيرًا، يتعجب الأمين العام من سوء ظن البعض بأولئك القائمين على النشاط وتصيد أخطاؤهم البشرية، وسوء الظن سببه - كما يرى سعادته - هو التشفي والحسد. كما ويتساءل المسؤول نفسه: «لماذا ينكر بعض الناس إسناد الإشراف علي مراكز النشاط إلى من تظهر عليهم سمات الصلاح».
هذه -باختصار- هي مجمل رؤية أولئك الذين يخططون لبرامج النشاط الطلابي في بلادنا ويتابعونها ويقيمونها قبل وأثناء وبعد التنفيذ. لكن ما هو واقع النشاط اللاصفي كما هو ممارس في مدارسنا؟، هل يتفق واقع النشاط في المدارس مع طموحات المخططين له أم يحيد عنها؟ حول برامج النشاط اللاصفي وأثرها على الطلاب برزت وجهات نظر مخالفة نجملها في النقاط التالية:
أدى ضعف إمكانات المدارس - وخصوصا مرافقها - إلى الحد من ممارسة الأنشطة اللاصفية.
ما تزال ممارسة النشاط اللاصفي قصرا على فئة محدودة من الطلاب، فقطاع كبير من الطلاب لا يزال يحجم عن المشاركة في النشاط (لماذا؟)، والشيء نفسه يقال عن ضعف مشاركة المعلمين في الإشراف على النشاط والمراكز الصيفية.
خلافًا لما تشير إليه خطط النشاط الطلابي ما يزال النشاط اللاصفي المنفذ محدودًا في تنوع برامجه (معظم الأنشطة تتركز في الأنشطة الرياضية والمحاضرات التوعوية الدينية).
كثير من الأعمال المهنية والفنية التي تعرضها المدارس لا ينفذها الطلاب أنفسهم، وإن ظهر على العمل أنه من إعداد الطالب، وهذا خلق لا يليق بأي مؤسسة تربوية!
من خلال بعض الأنشطة الطلابية تصل إلى الطلاب رسائل تعزز لديهم الزهد في الحياة واحتقار كثير من الأمور الدنيوية المهمة. فزيارات الطلاب الدورية للمقابر قد لا يؤيدها الكثير، كما أن إشغال الطلاب في المراحل المبكرة من التعليم بتعلم غسل الموتى وتكفينهم وإنزالهم في اللحد قد لا يكون أمرًا مطلوب من الجميع معرفته.
المشرفون على النشاط يؤدون عملهم وهم مدفوعون غالبا بحبهم للأعمال التطوعية والاحتساب، وفي مثل هذه الظروف يغيب نظام المساءلة والمحاسبة عند حدوث أي تقصير من المشرفين.
لا يوجد ضبط واضح لمن يسمح له بتقديم المحاضرات والمواعظ للطلاب في المدارس أو المراكز الصيفية، وحيث إن العقل يحتله الأسبق إليه - كما يقال - فيجب أن نطمئن إلى أن من يتحدث إلى طلابنا ويعظهم هم من ذوي التوجهات المعتدلة غير المغالية.
هناك -للأسف- من يحاول إقناع الطلاب بأن إنشاد السلام الوطني في الصباح بدعة غير مقبولة.
هناك اعتقاد خاطئ لدى البعض بأن النشاط اللاصفي مضيعة لوقت الطالب، وهذا ما يجب العمل على إزالته من أذهان الطلاب وأهاليهم.
السمة العامة لطلابنا هي الخجل، التردد، عدم القدرة على تحمل المسؤولية، ضعف مهارات الاتصال والحوار مع الآخرين. وهنا نسأل: أين دور النشاط الطلابي في معالجة هذا الخلل؟
برامج النشاط
وأخيرا: نطرح السؤال التالي:
هل برامج النشاط وموضوعاته المنفذة - وليست المخططة - هي أقرب إلى تعزيز الفكر الوسطي المعتدل بين الطلاب أم هي أقرب في ذلك إلى الغلو؟
إن الإجابة عن هذا السؤال قد لا تكون بالسهولة التي يتصورها البعض، فإذا ما تجاوزنا ضعف إقبال الطلاب على النشاط ومحدودية تنوع برامجه؛ سنجد أن ثمة من يحاول أن ينشر بين طلابنا ثقافة أهم عناصرها غياب التسامح وعدم قبول الرأي المخالف؛ هناك من يحاول إقناع طلابنا بقبول مرجعيات غير مؤهلة تدور الشكوك حولها؛ هناك من يحاول دفع طلابنا إلى الزهد في الحياة؛ هناك من يحاول خلق فجوة بين عالم الطلاب المعاش والعالم الذي يراد رسمه في أذهانهم؛ هناك سيل من الفتاوى غير المنضبطة يتعرض لها الطلاب؛ هناك طلاب عاجزون عن التحاور والتواصل اللغوي السليم مع الآخرين؛ هناك طلاب عاجزون عن الاعتماد على أنفسهم؛ هناك طلاب ذوو أفق ضيق لا يشاركون مجتمعهم وأسرهم؛ هناك تجاهل للأنشطة العلمية التي تثري التفكير العلمي بأنماطه؛ لذا فإن السؤال الذي يجب التأمل فيه هو: هل تعد هذه المشاهدات حالات فردية؟ إنه سؤال يضع النشاط اللاصفي في قفص الاتهام ويستدعي من مسئولي التربية المسارعة إلى بحث واقع النشاط اللاصفي في مدارسنا لنطمئن إلى أنه يتوافق مع القيم والتوجهات التي أقرتها وزارة التربية والتعليم.