ابولمى
3 - 6 - 2004, 04:52 AM
لمن يريد برهاناً آخر
حمزة قبلان المزيني
تكررت الشكوى من سيطرة الأدلجة على التعليم في بلادنا. وقد أورد عدد من الكتّاب كثيرا من الأدلة الواضحة التي تبرهن على خطورة هذه المشكلة في المقررات الدراسية وعلى مدى انتشارها في المدارس بسبب انتماء كثير من المعلمين لما يسمى بـ"الصحوة" مما جعل كثيرا منهم يستنفد جهده في سبيل "الدعوة" بدلا من استنفاد ذلك الجهد في التعليم. ومع ذلك فما يزال هناك من ينكر وجود هذه الأدلجة، وهناك من يرى أن وجودها ليس مأخذا بل أمرا طبيعيا يعبِّر عن الهوية الإسلامية لهذه البلاد وعن مهمة التعليم في إبراز هذه الهوية.
وإسهاما في إيراد مزيد من الأدلة على وجود هذه الظاهرة ومن أجل التدليل على تجذُّرها ومدى خطرها على التعليم ولغة التعليم أورد هنا مثالا قريبا هو ورقة امتحان النحو والصرف في "اختبار شهادة الثانوية العامة ـ القسم العلمي ـ بنات" الذي عقد يوم الأحد 11/4/1425هـ.
فقد تضمنت هذه الورقة أربعة أسئلة بفقرات متعددة تصطبغ النصوص النثرية والشعرية كلها فيها بصبغة أيديولوجية غير ضرورية. يضاف إلى ذلك أنها نصوص حُرمت من أية مسحة من الجمال اللغوي. والواضح أنها اختيرت، أو أنشئت، من أجل ما تحمله من المعاني الدينية أو "الوطنية" التي لُبِّست لباسا دينيا، وكان ثمنُ ذلك التضحيةَ بالجانب اللغوي الذي كان يجب أن يكون المقصد الأول. ويجب أن نلحظ هنا أن هذه الورقة لم تتضمن آية قرآنية كريمة واحدة ولا حديثا نبويا شريفا واحدا ولا مثالا عربيا جميلا من النثر أو الشعر.
ويتكون السؤال الأول من النص التالي وبعض الأسئلة الصرفية عليه:
"تعدُّ الحوادث الإرهابية والإجرامية التي حدثت في بلادنا سرطانا نبت في رحم هذا الوطن، هدفُه زعزعة الأمن، وتقويض أبنية المجتمع.
وعلى الرغم من مرارة الحدث، ودهشة الصدمة في ظهور عدد من الشباب بثوب جديد لم نألفه منهم، بعدما خالفوا مقاصد الإسلام، وخلعوا عباءة الطيبة والاعتدال، وارتدوا عباءة مغايرة، وجهُها مليء بالتخريب والعنف الأعمى واستباحة الأنفس ـ إلا أننا سَعُدْنا بما رأيناه من عزيمة رجال الأمن وتضحياتهم، وجهود الدولة وعلمائها لاقتلاع هذه البذرة الشاذة المؤذية.
وستبقى هذه البلاد ـ بإذن الله ـ متماسكة ومعتزة بتاريخها الديني، لا تهزُّها الرياح الهائجة، ولا تلدغها السموم القاتلة، وستزداد عطاء ونماء، وستظل بين جوانحها قلوبٌ آمنةٌ مطمئنة. اللهم احفظ هذا الوطن حرما ومسجدا وإنسانا وسهلا وجبلا".
وركاكة هذا النص واضحة، وهو نص متحذلِق ويتضمن استعمالات غريبة. ومن هذه الاستعمالات: ".... نبت في رحم هذا الوطن" (والوطن مذكر؛ فكيف يكون له رحم؟)، و"ظهور عدد من الشباب بثوب جديد..."، وهو تعبير كأنه يمدح أولئك الخارجين على الأمة بالوصف المحبب "شباب"، كما يتعارض وصف ما يرتدونه بأنه "ثوب جديد" مع الرغبة في التنفير منهم ومن أفعالهم، و"ارتدوا عباءة مغايرة، وجهها مليء بالتخريب والعنف الأعمى واستباحة الأنفس"، فهل للعباءة وجه؟ وكيف يكون ملآن بالأشياء المذكورة؟ و"معتزة بتاريخها الديني"، فهل هو تاريخ مختلف عن أنواع أخرى من التواريخ؟ و"لا تلدغها السموم القاتلة"، فهل السموم هي التي تلدغ، أم أنها الحيات والعقارب؟ وأخيرا فقد ضُمت عين الفعل "سعدنا" مع أنه من باب "فرِح".
أما السؤال الثاني فيتكون من فقرتين. ويُسأل فيهما عن قضايا صرفية ونحوية باستخدام كلمات دينية. فتطلب الفقرة الأولى اختيار الكلمة التي تصلح تمييزا في جملة: "حفظتُ من سورة البقرة مئة... (آية). وتسأل الفقرة الثانية عن "النَّسب" إلى كلمة "هجرة". وتتكون الفقرة الثانية من السؤال عن الأعداد والتمييز في جملة عن فتح مكة. ويطلب فيها الإتيان بكلمة "مجاهد" تمييزا لعدد الجيش الذي اشترك في فتح مكة.
ومن المعلوم أن هذه الكلمة لم ترد في المصادر تمييزا لعدد الصحابة الكرام الذين اشتركوا في تلك الغزوة. وربما دل إيراد كاتب هذا الاختبار لها هنا على تجذر هذه الكلمة في لا وعيه مما جعلها تنزلق على لسانه في سياق لم تستعملها المصادر فيه.
ويتضمن السؤال الثالث خمسة أبيات. ولست أدري إن كانت هذه الأبيات مأخوذة من قصائد موجودة فعلا، أم أنها من "إبداع" واضع الأسئلة. ويبدو أن البيت الأول منها جيء به للتغطية على النََّّفَس الأيديولوجي الظاهر في الأبيات الأربعة الأخرى. والبيت الأول هو:
صنائع فهْدِنَا من غير حصر تميل لثقلِهَا أعلى الغصون.
وهو بيت ركيك جدا، وفيه مبالغة لا أظن الممدوح يرضاها حتى لو كان البيت جميل الصياغة. ويلحظ أن هناك ضعفا في صياغة البيت ربما يؤدي به إلى أن يكون قدحا لا مدحا. ذلك أن "أعلى" الغصون في الشجرة رقيقة وضعيفة ويمكن أن يميلها الهواء والأشياء الخفيفة. وبذلك فإن هذه "الصنائع" ستُميل هذه الغصون حتما، وإن كانت قليلة. كما أن في البيت ضرورة شعرية تتمثل في تسكين "القاف"، وهناك "فتحة" على "النون" في "فهدنا" وعلى "الهاء" في "ثقلها" المتبوعتين بالألف، وهو تزيُّد في الضبط، إن أحسنّا الظن.
أما البيت الثاني فهو:
لا تنطقي إنَّ الدموع أُخيَّتي هي للذي يغتالُ صوتَكِ أفضحُ
وتُستعمل كلمة "أخيتي" الآن بكثرة في الخطاب "الصحوي" الموجَّه إلى المرأة. وهي حذلقة أيديولوجية واضحة. والبيت ركيك الصياغة وملآن بالدموع والاغتيال والفضائح!
والبيت الثالث هو:
لقد جمع القرآنُ بين قلوبنا كما اجتمعتْ في الراحتين الأصابعُ
وهذا عبث ببيتٍ جميلٍ للشاعر العذري قيس بن ذريح، وهو:
لقد ثَبتتْ في القلب منكِ محبةٌ كما ثَبتتْ في الراحتين الأصابعُ
ومن الملاحظ أن العابث ببيت ابن ذريح لم يوفق لأن صيغة الفعلين في بيت ابن ذريح واحدة، وهو مما يقرِّب التشبيه، أما في البيت المسروق فهما صيغتان مختلفتان: "فعَل" و"افتعل"، مما يجعل التشبيه بعيدا.
ولا يبعد أن يكون هذا العبث واحدا من مظاهر "الأسلمة" التي سينشأ عنها، حين تبلغ مداها المنطقي، تحريفُ الشعر العربي الذي لا يتوافق مع أذواق الأيديولوجيين الذين ينظِّرون لـ "الأدب الإسلامي" وأهوائهم.
والبيت الرابع هو:
أرتِّل آية من بعد أخرى كأني في الخمائل عندليب
وهو دليل بيِّن على المدى البعيد الذي يمكن أن يصل إليه الافتقارُ إلى الذوق اللغوي. بل ربما يصل الأمر بهذا البيت أن يكون تشبيها لتلاوة القرآن الكريم بغناء العصافير، أو "نطنطتها" وهو ما يتنافى مع جو المهابة والخشوع الذي يصحب قراءة القرآن الكريم. وهي صياغة ساذجة في أية حال، ولا يمكن أن يتذوقها ويعجب بها إلا من حرم موهبة التذوق اللغوي والجمالي للشعر. كما أنه فج لما فيه من أيديولوجيا خانقة.
والبيت الرابع هو:
أوّاه يا أبتي على أمجادنا يختال فوق رُفاتها الجلادُ
وهو نموذج للتحريض الذي أنتج لنا شبابا غاضبا لا يجد متنفسا لغضبه وشعوره بالإحباط إلا أن يوجِّه أسلحته إلى صدورنا بعد أن سُدَّت في وجهه السبل الأخرى للانتقام من "الأعداء" الحقيقيين والمتخيَّلين.
ويتضمن السؤال الرابع البيت التالي:
واحفظ لسانك، واحترز من لفظه فالمرء يسلم باللسان ويعطب
وهو من أبيات "الحكمة" التقليدية الممجوجة التي تحض على الصمت وعدم إبداء الرأي خوفا من العواقب الوخيمة التي تنجم عن ذلك. وهذا غريب في وقت تسعى وزارة التربية والتعليم إلى تشجيع الطلاب والطالبات على الحوار وعدم الخوف من إبداء الرأي وتحمُّل مسؤولية ذلك.
ومحصلة القول أن هذه الورقة برهان واضح على السيطرة الأيديولوجية على مفاصل مهمة في وزارة التربية والتعليم في بلادنا. ومما يدعو إلى القلق أن هذه الورقة كانت نتيجة لعمل فريق من المسؤولين عن تدريس اللغة العربية في الوزارة. ويعني ظهورها بهذه الصبغة الأيديولوجية والضعف والخطأ اللغويين أنها ربما تعبر عن مستوى هذا الفريق الذي لم يجد فيها بأسا، أو ربما عن مستوى القائمين على تدريس اللغة العربية في الوزارة الذين أجازوها بهذه الصورة.
ويجب أن أوضح هنا أنني لست ضدا لأن تتضمن المقررات الدراسية القيمَ الإسلامية والقيم الأخرى السامية. لكن نقل هذه القيم والمثُل إلى الطلاب والطالبات يجب أن يكون من خلال نصوص عربية جميلة تتصف بالبناء اللغوي المتين والتصوير الفني الذي يثري الخيال، وأن تحترم عقول الطلاب والطالبات بخلوها من التهافت والسذاجة والتحذلق والأدلجة.
إن المهمة التي يجب أن تقوم بها وزارة التربية والتعليم هي تمكين الطلاب والطالبات من التمرس بلغة عربية سليمة مؤدية تُسهم في الارتقاء بأذواقهم وتكسبهم الرصانة اللغوية وتكون سبيلا لاطلاعهم على النصوص الجميلة التي كتبت بصورة طبيعية وتزخر بها المصادر العربية بدلا من الاكتفاء بنصوص إنشائية يصوغها بعض البيروقراطيين الأيديولوجيين للتعبير عن أيديولوجياتهم وفرضها من ثم على المقررات والاختبارات.
* كاتب وأكاديمي سعودي
http://www.alwatan.com.sa/daily/2**4-06-03/writers/writers03.htm
حمزة قبلان المزيني
تكررت الشكوى من سيطرة الأدلجة على التعليم في بلادنا. وقد أورد عدد من الكتّاب كثيرا من الأدلة الواضحة التي تبرهن على خطورة هذه المشكلة في المقررات الدراسية وعلى مدى انتشارها في المدارس بسبب انتماء كثير من المعلمين لما يسمى بـ"الصحوة" مما جعل كثيرا منهم يستنفد جهده في سبيل "الدعوة" بدلا من استنفاد ذلك الجهد في التعليم. ومع ذلك فما يزال هناك من ينكر وجود هذه الأدلجة، وهناك من يرى أن وجودها ليس مأخذا بل أمرا طبيعيا يعبِّر عن الهوية الإسلامية لهذه البلاد وعن مهمة التعليم في إبراز هذه الهوية.
وإسهاما في إيراد مزيد من الأدلة على وجود هذه الظاهرة ومن أجل التدليل على تجذُّرها ومدى خطرها على التعليم ولغة التعليم أورد هنا مثالا قريبا هو ورقة امتحان النحو والصرف في "اختبار شهادة الثانوية العامة ـ القسم العلمي ـ بنات" الذي عقد يوم الأحد 11/4/1425هـ.
فقد تضمنت هذه الورقة أربعة أسئلة بفقرات متعددة تصطبغ النصوص النثرية والشعرية كلها فيها بصبغة أيديولوجية غير ضرورية. يضاف إلى ذلك أنها نصوص حُرمت من أية مسحة من الجمال اللغوي. والواضح أنها اختيرت، أو أنشئت، من أجل ما تحمله من المعاني الدينية أو "الوطنية" التي لُبِّست لباسا دينيا، وكان ثمنُ ذلك التضحيةَ بالجانب اللغوي الذي كان يجب أن يكون المقصد الأول. ويجب أن نلحظ هنا أن هذه الورقة لم تتضمن آية قرآنية كريمة واحدة ولا حديثا نبويا شريفا واحدا ولا مثالا عربيا جميلا من النثر أو الشعر.
ويتكون السؤال الأول من النص التالي وبعض الأسئلة الصرفية عليه:
"تعدُّ الحوادث الإرهابية والإجرامية التي حدثت في بلادنا سرطانا نبت في رحم هذا الوطن، هدفُه زعزعة الأمن، وتقويض أبنية المجتمع.
وعلى الرغم من مرارة الحدث، ودهشة الصدمة في ظهور عدد من الشباب بثوب جديد لم نألفه منهم، بعدما خالفوا مقاصد الإسلام، وخلعوا عباءة الطيبة والاعتدال، وارتدوا عباءة مغايرة، وجهُها مليء بالتخريب والعنف الأعمى واستباحة الأنفس ـ إلا أننا سَعُدْنا بما رأيناه من عزيمة رجال الأمن وتضحياتهم، وجهود الدولة وعلمائها لاقتلاع هذه البذرة الشاذة المؤذية.
وستبقى هذه البلاد ـ بإذن الله ـ متماسكة ومعتزة بتاريخها الديني، لا تهزُّها الرياح الهائجة، ولا تلدغها السموم القاتلة، وستزداد عطاء ونماء، وستظل بين جوانحها قلوبٌ آمنةٌ مطمئنة. اللهم احفظ هذا الوطن حرما ومسجدا وإنسانا وسهلا وجبلا".
وركاكة هذا النص واضحة، وهو نص متحذلِق ويتضمن استعمالات غريبة. ومن هذه الاستعمالات: ".... نبت في رحم هذا الوطن" (والوطن مذكر؛ فكيف يكون له رحم؟)، و"ظهور عدد من الشباب بثوب جديد..."، وهو تعبير كأنه يمدح أولئك الخارجين على الأمة بالوصف المحبب "شباب"، كما يتعارض وصف ما يرتدونه بأنه "ثوب جديد" مع الرغبة في التنفير منهم ومن أفعالهم، و"ارتدوا عباءة مغايرة، وجهها مليء بالتخريب والعنف الأعمى واستباحة الأنفس"، فهل للعباءة وجه؟ وكيف يكون ملآن بالأشياء المذكورة؟ و"معتزة بتاريخها الديني"، فهل هو تاريخ مختلف عن أنواع أخرى من التواريخ؟ و"لا تلدغها السموم القاتلة"، فهل السموم هي التي تلدغ، أم أنها الحيات والعقارب؟ وأخيرا فقد ضُمت عين الفعل "سعدنا" مع أنه من باب "فرِح".
أما السؤال الثاني فيتكون من فقرتين. ويُسأل فيهما عن قضايا صرفية ونحوية باستخدام كلمات دينية. فتطلب الفقرة الأولى اختيار الكلمة التي تصلح تمييزا في جملة: "حفظتُ من سورة البقرة مئة... (آية). وتسأل الفقرة الثانية عن "النَّسب" إلى كلمة "هجرة". وتتكون الفقرة الثانية من السؤال عن الأعداد والتمييز في جملة عن فتح مكة. ويطلب فيها الإتيان بكلمة "مجاهد" تمييزا لعدد الجيش الذي اشترك في فتح مكة.
ومن المعلوم أن هذه الكلمة لم ترد في المصادر تمييزا لعدد الصحابة الكرام الذين اشتركوا في تلك الغزوة. وربما دل إيراد كاتب هذا الاختبار لها هنا على تجذر هذه الكلمة في لا وعيه مما جعلها تنزلق على لسانه في سياق لم تستعملها المصادر فيه.
ويتضمن السؤال الثالث خمسة أبيات. ولست أدري إن كانت هذه الأبيات مأخوذة من قصائد موجودة فعلا، أم أنها من "إبداع" واضع الأسئلة. ويبدو أن البيت الأول منها جيء به للتغطية على النََّّفَس الأيديولوجي الظاهر في الأبيات الأربعة الأخرى. والبيت الأول هو:
صنائع فهْدِنَا من غير حصر تميل لثقلِهَا أعلى الغصون.
وهو بيت ركيك جدا، وفيه مبالغة لا أظن الممدوح يرضاها حتى لو كان البيت جميل الصياغة. ويلحظ أن هناك ضعفا في صياغة البيت ربما يؤدي به إلى أن يكون قدحا لا مدحا. ذلك أن "أعلى" الغصون في الشجرة رقيقة وضعيفة ويمكن أن يميلها الهواء والأشياء الخفيفة. وبذلك فإن هذه "الصنائع" ستُميل هذه الغصون حتما، وإن كانت قليلة. كما أن في البيت ضرورة شعرية تتمثل في تسكين "القاف"، وهناك "فتحة" على "النون" في "فهدنا" وعلى "الهاء" في "ثقلها" المتبوعتين بالألف، وهو تزيُّد في الضبط، إن أحسنّا الظن.
أما البيت الثاني فهو:
لا تنطقي إنَّ الدموع أُخيَّتي هي للذي يغتالُ صوتَكِ أفضحُ
وتُستعمل كلمة "أخيتي" الآن بكثرة في الخطاب "الصحوي" الموجَّه إلى المرأة. وهي حذلقة أيديولوجية واضحة. والبيت ركيك الصياغة وملآن بالدموع والاغتيال والفضائح!
والبيت الثالث هو:
لقد جمع القرآنُ بين قلوبنا كما اجتمعتْ في الراحتين الأصابعُ
وهذا عبث ببيتٍ جميلٍ للشاعر العذري قيس بن ذريح، وهو:
لقد ثَبتتْ في القلب منكِ محبةٌ كما ثَبتتْ في الراحتين الأصابعُ
ومن الملاحظ أن العابث ببيت ابن ذريح لم يوفق لأن صيغة الفعلين في بيت ابن ذريح واحدة، وهو مما يقرِّب التشبيه، أما في البيت المسروق فهما صيغتان مختلفتان: "فعَل" و"افتعل"، مما يجعل التشبيه بعيدا.
ولا يبعد أن يكون هذا العبث واحدا من مظاهر "الأسلمة" التي سينشأ عنها، حين تبلغ مداها المنطقي، تحريفُ الشعر العربي الذي لا يتوافق مع أذواق الأيديولوجيين الذين ينظِّرون لـ "الأدب الإسلامي" وأهوائهم.
والبيت الرابع هو:
أرتِّل آية من بعد أخرى كأني في الخمائل عندليب
وهو دليل بيِّن على المدى البعيد الذي يمكن أن يصل إليه الافتقارُ إلى الذوق اللغوي. بل ربما يصل الأمر بهذا البيت أن يكون تشبيها لتلاوة القرآن الكريم بغناء العصافير، أو "نطنطتها" وهو ما يتنافى مع جو المهابة والخشوع الذي يصحب قراءة القرآن الكريم. وهي صياغة ساذجة في أية حال، ولا يمكن أن يتذوقها ويعجب بها إلا من حرم موهبة التذوق اللغوي والجمالي للشعر. كما أنه فج لما فيه من أيديولوجيا خانقة.
والبيت الرابع هو:
أوّاه يا أبتي على أمجادنا يختال فوق رُفاتها الجلادُ
وهو نموذج للتحريض الذي أنتج لنا شبابا غاضبا لا يجد متنفسا لغضبه وشعوره بالإحباط إلا أن يوجِّه أسلحته إلى صدورنا بعد أن سُدَّت في وجهه السبل الأخرى للانتقام من "الأعداء" الحقيقيين والمتخيَّلين.
ويتضمن السؤال الرابع البيت التالي:
واحفظ لسانك، واحترز من لفظه فالمرء يسلم باللسان ويعطب
وهو من أبيات "الحكمة" التقليدية الممجوجة التي تحض على الصمت وعدم إبداء الرأي خوفا من العواقب الوخيمة التي تنجم عن ذلك. وهذا غريب في وقت تسعى وزارة التربية والتعليم إلى تشجيع الطلاب والطالبات على الحوار وعدم الخوف من إبداء الرأي وتحمُّل مسؤولية ذلك.
ومحصلة القول أن هذه الورقة برهان واضح على السيطرة الأيديولوجية على مفاصل مهمة في وزارة التربية والتعليم في بلادنا. ومما يدعو إلى القلق أن هذه الورقة كانت نتيجة لعمل فريق من المسؤولين عن تدريس اللغة العربية في الوزارة. ويعني ظهورها بهذه الصبغة الأيديولوجية والضعف والخطأ اللغويين أنها ربما تعبر عن مستوى هذا الفريق الذي لم يجد فيها بأسا، أو ربما عن مستوى القائمين على تدريس اللغة العربية في الوزارة الذين أجازوها بهذه الصورة.
ويجب أن أوضح هنا أنني لست ضدا لأن تتضمن المقررات الدراسية القيمَ الإسلامية والقيم الأخرى السامية. لكن نقل هذه القيم والمثُل إلى الطلاب والطالبات يجب أن يكون من خلال نصوص عربية جميلة تتصف بالبناء اللغوي المتين والتصوير الفني الذي يثري الخيال، وأن تحترم عقول الطلاب والطالبات بخلوها من التهافت والسذاجة والتحذلق والأدلجة.
إن المهمة التي يجب أن تقوم بها وزارة التربية والتعليم هي تمكين الطلاب والطالبات من التمرس بلغة عربية سليمة مؤدية تُسهم في الارتقاء بأذواقهم وتكسبهم الرصانة اللغوية وتكون سبيلا لاطلاعهم على النصوص الجميلة التي كتبت بصورة طبيعية وتزخر بها المصادر العربية بدلا من الاكتفاء بنصوص إنشائية يصوغها بعض البيروقراطيين الأيديولوجيين للتعبير عن أيديولوجياتهم وفرضها من ثم على المقررات والاختبارات.
* كاتب وأكاديمي سعودي
http://www.alwatan.com.sa/daily/2**4-06-03/writers/writers03.htm