المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سبينوزا بين الدين والفلسفة - هاشم صالح


 


تـوفــي
26 - 6 - 2010, 04:40 PM
ما هي المشكلة الأساسية في عصر سبينوزا؟ بل ما هي المشكلة الأساسية على مدار ثلاثمائة سنة من تشكل الحداثة الأوروبية؟ إنها مشكلة الدين والأصولية الدينية. إذا لم نفهم هذه النقطة، إذا لم نعرها الاهتمام الكافي فإننا لن نفهم أبداً جوهر الحداثة ومعاركها الكبرى. عندما نشر سبينوزا كتابه "مقالة في اللاهوت السياسي" عام 1670، فإن ذلك يعني أنه انخرط في إحدى المعارك الرهيبة التي استمرت بعده طيلة مائتي سنة وأكثر. لقد أراد تحديد العلاقات بين الدين والسياسة، أو بين رجال الدين ورجال الحكم. وأراد أيضاً، وبالدرجة الأولى، البرهنة على الشيء الأساسي التالي : وهي أن حرية التفلسف، أو حرية الضمير والمعتقد والكلام، لا تضرّ أبداً بالسلام العام للدولة ولا تؤدي إلى الفسق والفجور كما يدعي اللاهوتيون. على الع**، إنها شرط أساسي لتحقق هذا السلام ولشيوع الاستقامة والنـزعة الأخلاقية في المجتمع. وبالتالي فلا ينبغي التضييق على الحرية الفكرية أو الفلسفية ما دامت تعبر عن نفسها داخل حدود القانون.
في الواقع إن هذا الكتاب يمثل أول تدخل لسبينوزا في الشؤون الدينية والسياسية لزمنه. ولذلك فهو يحتل مكانة خاصة بين أعماله. فهو قد ظهر في مرحلة حرجة من تاريخ هولندا. فالجدالات اللاهوتية كانت عنيفة بين مختلف الطوائف المسيحية وبالأخص البروتستانتية الكالفينية التي كانت تشكل دين الأغلبية. وذلك على ع** فرنسا، أو إسبانيا، أو إيطاليا حيث يسيطر المذهب الكاثوليكي بشكل مطلق تقريباً. وقد أدت هذه الصراعات اللاهوتية بين مختلف الطوائف البروتسانتية إلى انتصار المذهب الكالفيني أولاً، وذلك قبل أن يحصل تعايش سلمي إلى حد ما بين مختلف هذه الطوائف. وهو تعايش فريد من نوعه في أوروبا آنذاك. فمعظم الدول ما كانت تقبل إلا بمذهب واحد في أراضيها، وكانت تحرِّم كل المذاهب المسيحية الأخرى تحريماً قاطعاً باعتبار أنها منحرفة عن الخط المستقيم للدين المسيحي، أي عن الأرثوذ**ية. وبالتالي فهي مهرطقة، أو زنديقة، ويحل تكفيرها وإدانة أتباعها وحرمانهم من الحقوق السياسية والمدنية. وهذا ما فعله المذهب الكاثوليكي في فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، والبرتغال، مع البروتستانتيين. وحدها انجلترا كانت تمشي في اتجاه التحرر من الطائفية والمذهبية، أي في الإتجاه الذي سلكته هولندا. بالإضافة إلى الصراعات اللاهوتية المذكورة كانت هناك صراعات على السلطة. وهي صراعات اندلعت بين عائلة "أورانج" الملكية، وبين المجالس المحلية التي تحكم المدن والأقاليم .
فبعد موت الملك غيوم الثاني وصل إلى السلطة شخص مستنير يدعى "جان دوفيت". وشهدت هولندا في عهده ازدهاراً للعلوم والجامعات. وتم إدخال الفلسفة الحديثة إليها، أي فلسفة فرانسيس بيكون، وديكارت، وهوبز. وانتعشت الحياة الثقافية وشهدت دور النشر نشاطاً كبيراً. وأصبحت هولندا منارة للفكر والآداب في كل أنحاء أوروبا.