المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في الربيع الأزرق : الرافعي


 


أوياسين
28 - 2 - 2009, 01:06 PM
ما أجمل الأرضَ على حاشية الأزرقَيْن البحر والسماء؛ يكاد الجالسُ هنا يظنُّ نفسَه مرسوماً في صورة إلهية.

نظرتُ إلى هذا البحر العظيم بعينَيْ طفل يتخيل أنَّ البحرَ قد مُلئ بالأمس، وأن السماء كانت إناءً له، فانكفأَ الإناء فاندفق البحر، وتَسرَّحتُ مع هذا الخيال الطفليّ الصغير فكأنما نالني رَشاشٌ من الإناء...
إننا لن ندركَ روعةَ الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفسُ قريبةً من طفولتها، ومرَح الطفولةِ، ولَعبها، وهَذَيانها.

تبدو لك السماء على البحر أعظمَ مما هي، كما لو كنتَ تنظُر إليها من سماءٍ أخرى لا من الأرض.

إذا أنا سافرتُ فجئتُ إلى البحر، أو نزلتُ بالصحراء، أو حللتُ بالجبل، شعرتُ أول وهلةٍ من دهشة السرور بما كنت أشعرُ بمثله لو أن الجبلَ أو الصحراء أو البحرَ قد سافرتْ هي وجاءت إليّ.

في جمال النفس يكون كلُّ شيء جميلا، إذ تُلقي النفسُ عليه من ألوانها، فتنقلب الدارُ الصغيرةُ قصراً لأنها في سَعة النفس لا في مساحتها هي، وتَعرفُ لنور النهار عذوبةً كعذوبة الماء على الظمإ، ويظهر الليلُ كأنه معرضُ جواهرَ أقيم للحور العين في السماوات، ويبدو الفجرُ بألوانه وأنواره ونسماته كأنه جنةٌ سابحةٌ في الهواء.
في جمال النفس ترى الجمالَ ضرورةً من ضرورات الخليقة؛ وَيْ كأنَّ الله أمرَ العالَم ألا يعبس للقلب المبتسم.

أيامُ المصْيف هي الأيامُ التي ينطلق فيها الإنسانُ الطبيعيُّ المحبوسُ في الإنسان؛ فيرتدُّ إلى دهره الأول، دهر الغابات والبحار والجبال.
إن لم تكن أيامُ المصيف بمثل هذا المعنى، لم يكن فيها معنىً.

ليست اللذةُ في الراحة ولا الفراغ، ولكنّها في التعب والكَدْح والمشقة حين تتحول أياماً إلى راحةٍ وفراغ.

لا تتمُّ فائدةُ الانتقال من بلد إلى بلدٍ إلا إذا انتقلت النفسُ من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهَمُّ فأنت مقيمٌ لم تَبرحْ.

الحياة في المصْيف تُثبت للإنسان أنها إنما تكونُ حيث لا يُحفلُ بها كثيرا.

يشعر المرء في المُدُن أنه بين آثار الإنسان وأعماله، فهو في رُوح العَناء والكدح والنزاع؛ أما في الطبيعة فيُحِسُّ أنه بين الجمال والعجائب الإلهية، فهو هنا في رُوح اللذة والسرور والجلال.

إذا كنتَ في أيام الطبيعة فاجعل فكرك خالياً وفرّغهُ للنَّبْت والشجر، والحجَر والمَدَر، والطير والحيوان، والزهر والعُشْب، والماء والسماء، ونور النهار، وظلام الليل، حينئذٍ يفتحُ العالَم بابَه ويقول: ادخل..

لُطْفُ الجمال صورةٌ أخرى من عَظمة الجمال؛ عرفتُ ذلك حينما أبصرتُ قطرةً من الماء في غصن، فخيّل إليَّ أنَّ لها عظمَة البحر لو صَغُر فعُلّق على ورقة.

أليس عجيبا أن كلَّ إنسان يرى في الأرض بعض الأمكنة كأنها أمكنة للروح خاصة؛ فهل يدلُّ هذا على شيءٍ إلا أن خيالَ الجنة منذ آدم وحوّاء، لا يزال يعملُ في النفس الإنسانية؟

الحياة في المدينة كشُرب الماء في كُوب من الخَزَف؛ والحياةُ في الطبيعة كشرب الماء في كُوب من البَلُّور الساطع؛ ذاك يحتوي الماء وهذا يحتويه ويُبدي جمالَه للعين.

واأسفاهُ، هذه هي الحقيقة: إن دقَّةَ الفهم للحياة تُفسدها على صاحبها كدقة الفهم للحب، وإنَّ العقلَ الصغيرَ في فهمه للحب والحياة، هو العقلُ الكاملُ في التذاذه بهما. واأسفاه، هذه هي الحقيقة!

في هذه الأيام الطبيعية التي يجعلها المصْيفُ أيام سرور ونسيان، يشعرُ كلُّ إنسانٍ أنه يستطيع أن يقول للدنيا كلمة هَزْلٍ ودَعابة...

تقوم دنيا الرزق بما تحتاجُه الحياة، أما دنيا المصْيف فقائمة بما تلذُّه الحياة، وهذا هو الذي يغيّر الطبيعةَ ويجعلُ الجوَّ نفسَه هناك جوَّ مائدة ظُرفاء وظريفات...

تعمل أيام المصْيفِ بعد انقضائها عملا كبيرا، هو إدخالُ بعضِ الشّعر في حقائق الحياة.

هذه السماء فوقنا في كل مكان، غير أن العجيبَ أن أكثر الناس يرحلون إلى المصايف ليروا أشياء منها السماء...

إذا استقبلتَ العالَم بالنفس الواسعة رأيتَ حقائقَ السرور تزيد وتتسع، وحقائقَ الهموم تصغُرُ وتَضيق، وأدركت أنَّ دنياك إن ضاقتْ فأنت الضيِّقُ لا هي.

في الساعة التاسعة أذهبُ إلى عملي، وفي العاشرة أعمل كَيْت، وفي الحادية عشرةَ أعملُ كَيت وكَيت؛ وهنا في المصيف تفقدُ التاسعة وأخواتُها معانيها الزمنيَّة التي كانت تضعها الأيامُ فيها، وتستبدلُ منها المعانيَ التي تضعها فيها النفسُ الحرة.
هذه هي الطريقة التي تُصنَع بها السعادةُ أحياناً، وهي طريقةٌ لا يقدر عليها أحدٌ في الدنيا كصغار الأطفال.

إذا تلاقى الناس في مكان على حالةٍ متشابهةٍ من السرور وتَوَهُّمه والفكرة فيه، وكان هذا المكانُ مُعَدّاً بطبيعته الجميلة لنسيان الحياة ومكارِهها – فتلك هي الرواية وممثّلُوها ومَسْرَحُها، أما الموضوعُ فالسخريةُ من إنسان المدنيَّة ومدنية الإنسان.

ما أصدَق ما قالوه: إن المرئيَّ في الرائي. مرضتُ مدةً في المصيف، فانقلبت الطبيعةُ العروسُ التي كانت تتزينُ كلَّ يومٍ إلى طبيعة عجوزٍ تذهب كلَّ يومٍ إلى الطبيب..
.................................................. ......................
مصدر المقال : من كتاب: وحي القلم، للأستاذ مصطفى صادق الرافعي، ط1، ج1، ص43. (بتصرف)

فاطمة بنت زيد
28 - 2 - 2009, 01:33 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


إحساس جميل لمن يعيش الصورة ويتأمل الكلمات التي تكاد تتلون بلون الطبيعة

شكراً لك على هذا الاختيار

yakouta
19 - 3 - 2009, 03:12 PM
مقال رائع من كتاب أروع ، شكرا بل لك مني جزيل الشكر على هذا المقال ، فقد فزت و أنا أقرأه بنشوة انتزعتها من عقارب الساعة قبل أن تأخذني حياة العمل و نزاعات البشر
ألف شكر