نبع الوفاء
14 - 1 - 2007, 10:30 AM
التربية والتعليم واللامركزية
---------------------------------------------------------------
د. عدنان بن عبد الله الشيحة - 25/12/1427ه**;
تناقلت الصحف أخيرا نبأ مفاده أن وزارة التربية والتعليم قررت إلغاء مركزية الامتحانات النهائية للثانوية العامة، القرار أسعد الكثيرين من المختصين وأولياء الأمور. وكنت قد كتبت عدة مقالات في "الاقتصادية" أدعو فيها الوزارة إلى التخلي عن مركزية الامتحانات، إذ لا يعقل أن تتكلف الوزارة العناء والموارد والوقت من أجل 30 في المائة من المجموع الكلي للدرجة النهائية للطالب، كما أن الشهادة الثانوية بحد ذاتها لم تعد ذات قيمة اقتصادية عالية وتلاشت أهميتها في التوظيف والمكانة الاجتماعية وحتى القبول في الجامعات أصبح يعتمد على قياس القدرات والتحصيل. لقد أثبتت التجارب في السنوات الماضية أن ما كانت الوزارة تحاول تحقيقه من المساواة بين الطلاب وما تخشاه من تسرب الأسئلة وانكشافها قبل الامتحانات كان يقع حتى في ظل المركزية الشديدة والتشدد. لقد أدركت الوزارة أنها لا يمكن أن تستمر إلى الأبد في النهج نفسه الذي لم يعد يصلح في ظل المستجدات والمتغيرات الاقتصادية والسكانية والتقنية. وهذا الاستدراك من الوزارة يحسب لها وتشكر عليه، فكم من الأمور والقضايا الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار التي تواجهنا في المجتمع إلا أن أحدا لا يجرؤ على المساس بها أو يملك الدافعية لتغييرها أو الفكر والرؤية في إدراكها. أعلم أن البعض يستغرب استعظامي هذا القرار وأنه في ظاهره لا يستحق كل ذلك الزخم ولكن من له دراية بالثقافة البيروقراطية وتداخلاتها وتعقيداتها وشبكة النفوذ داخلها يعلم أنه ليس من السهل حتى على الوزير نفسه إحداث التغييرات المطلوبة، فهناك من يتقن تعطيل القرارات وتبطئتها بادخالها في دهاليز الإجراءات الروتينية الملتوية واللجان والاجتماعات المطولة وغيرها من الألاعيب التي يمارسها البيروقراطيون الصامدون كالحجر المتفانون في إبقاء الأشياء كما هي دون حراك لتتحول الإدارات إلى جمادات ساكنة لا تؤثر ولا تتأثر! لقد ذكر الرئيس الأمريكي الراحل نيكسون في مذكراته أنه عندما أصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية اعتقد أن بإمكانه عمل الكثير بحكم منصبه إلا أنه فوجئ بأن ذلك غير صحيح، فالكثير من قراراته تتعطل ولا ترى النور حتى تلك القرارات الفنية (غير السياسية) مثل محاولته نقل وزارة الدفاع إلى مبنى جديد فقد استغرق ذلك فترته الرئاسية الأولى ولم يتم نفاذ قراره إلا في أوائل فترته الرئاسية الثانية! ما أود الإشارة إليه هو أن التنظيم البيروقراطي بطبيعته منغلق وفي جوهره يسعى إلى التقنين والاستمرارية في نهج موحد والاعتماد في ذلك على الإجراءات الروتينية التي يجب ألا يحاد عنها (ظاهريا) قيد أنملة. في ظل القوة التي تكتسبها البيروقراطيات مع مرور الوقت كان لا بد من تدارك ذلك بانتهاج اللامركزية أو على أقل تقدير بالتخفيف من المركزية. إذ إن المركزية تعني تركيز عملية صنع القرار في أعلى الهرم الإداري أو في المركز دون المحليات (الإدارات المحلية). إن تركز السلطة في جهة واحدة مدعاة إلى التسلط والاستفراد بالرأي، إذ إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. والمفسدة هنا لا تعني فقط النواحي السلوكية اللا أخلاقية ولكن التوحد في اتخاذ القرار دون مشاركة الآخرين. التخفيف من المركزية يتيح الفرصة للإدارات في المستويات الأدنى وفي المحليات لتخاذ القرارات بكفاءة وفاعلية إذ هم الأقرب والأعرف بما يجب عمله خاصة في الأمور الروتينية والإشكالات اليومية. إن إعطاء الثقة للمسؤولين في المستويات التنفيذية والإدارات المحلية يجعلهم أكثر تفاعلا مع ما يدور حولهم وأكثر إبداعا لطرق جديدة لأداء الأشياء بشكل أفضل وكذلك أكثر دافعية نحو معالجة ما يواجهونه من تحديات وصعوبات. إنه شعور بتملك القضية والمشكلة وأنه المسؤول عن حلها بشكل واع وليس الاختباء وراء كومة من الإجراءات الروتينية وطبقات من المستويات الإدارية بعضها فوق بعض مسلوب الإرادة مهمش يعمل الأشياء لا يعلم لماذا يعملها ومن أجل ماذا وما الهدف الذي تحققه، وهكذا يتحول المسؤولون في الإدارات الدنيا وفي المحليات إلى "بصمجية" لا حول لهم ولا قوة.
إن الرسالة التي يوجهها وزير التربية والتعليم من خلال هذا القرار الحكيم هو أن التعليم أكثر من امتحانات وأنه حان الوقت للالتفات إلى الأهم وهو التربية وتطوير مهارات الطالب وزيادة تحصيله المعرفي وليس الاهتمام فقط بأدوات قياس تحصيله العلمي. إن الامتحانات جزء من عملية التعلم إذا ما وظفت كما ينبغي كمعلومات مرتدة تعرف الطالب إلى أي مدى حقق أهدافه التعليمية وهي بذلك تدفعه نحو البحث والاستكشاف وتشجعه نحو المزيد. وعندما يكون واضع الامتحانات يبعدون آلاف الكيلومترات عن الطالب ولا يمتون له بصلة لا من قريب ولا من بعيد وفي ظل تطبيق المعايير البيروقراطية على حساب المعايير التربوية تكون الامتحانات من أجل التحدي والتنافس الشخصي بين واضعي الامتحانات والمدرسين وليس بالضرورة لقياس قدرات الطالب. المشكلة التي نواجهها في التعليم أنه تحول من مهنة متخصصة إلى وظيفة يقوم بها أي كان. فالتوقعات التي نحملها عن وظيفة التدريس وطريقة التعامل مع معلمينا الأفاضل حجمت مهنة التعليم ليصبح الغرض منها حشر الطلاب في الفصول وتلقينهم معلومات لا يعلمون لها علاقة بواقعهم بطريقة تسلطية لا تتيح للطالب النقاش والتحاور. وهكذا تنتهي مهمة المدرسة وتكون قد قامت بواجبها التربوي الوطني وهو أن الطلاب تم التحفظ عليهم وحبسهم حتى نهاية الدوام. هذا ليس من قبيل المبالغة فمعظم الطلاب لا يحبذون الذهاب إلى المدرسة لأنها تفتقد عوامل الجذب ولا تحقق احتياجاتهم النفسية والذهنية. في المدرسة يعامل الطلاب كغرباء لا يمتلكون المكان ولا تتاح لهم حرية المساهمة والمشاركة فيما يجري حولهم. الكل داخل المدرسة يتوقع من الطالب أن ينساق وينصاع للأوامر دون نقاش وإلا اعتبر خارجا عن السلوك واللياقة. لقد أصبح الدافع نحو التعلم شكلا ظاهريا وليس دافعا داخليا يهتم باستكشاف الأشياء والتعلم من أجل المعرفة. لقد أصبح الطالب همه الأول والأخير الحصول على الدرجة بأي طريقة كانت حتى لو استدعى الأمر أن يحفظ المعلومات عن ظهر قلب دون أن يفهمها! لقد تولد بذلك مفهوم للتعليم اختزل في التمسك بالشكليات مثل الحضور والانصراف والدرجات دون تحقيق الأهداف الجوهرية والتأثيرات النهائية للتعليم وهو تغير في فكر وميول وسلوك الطالب. إذا لم يحدث شيء من هذا فهناك بكل تأكيد ثمة خطأ ما في العملية التعليمية. إن هذا الوضع شبيه إلى حد كبير بسلوك بعض الموظفين الذين يحرصون على الالتزام بالإجراءات البيروقراطية شكليا فيكون جل اهتمامهم التوقيع في سجل الحضور والانصراف دون التفاني في أداء مهماتهم الوظيفية، لأنه ببساطة لا أحد يعلم ولا يهتم بمستوى إنتاجهم. ومما يزيد الطين بلة عندما يتلبس هذا المفهوم بعض المعلمين خاصة عندما يرى أن تقييم أدائه يأتي روتينيا وتحصيل حاصل ولا يقدم ولا يؤخر في تطويره المهني ولا يفرق فيه بين الغث والسمين يتجذر لديه مفهوم خاطئ عن مهنة التعليم وكيفية مزاولتها وما يجب عليه القيام به. وهكذا يأخذ التعليم مسارا آخر لا يعتمد على المعايير التربوية ولكن المعايير البيروقراطية. إن قرار الوزارة بإلغاء مركزية الامتحانات الثانوية أحسب أنه إشارة جادة إلى تحول الوزارة إلى اللامركزية أو التخفيف منها وهو بلا شك تحول محمود يحمل في طياته الكثير من المعالجات لكثير من القضايا التي يئن من وطأتها التعليم العام. إن اللامركزية وتفويض صلاحيات أكبر للإدارات الدنيا والإدارات المحلية لا يعني بأي حال من الأحوال التقليل من دور الوزارة في التوجيه وإنما هو تحول في طبيعة الدور الذي تنتهجه، فالدور الرئيس للوزارة هو رسم الرؤى ووضع الاستراتيجيات التي هي إرشادات عامة يستنير بها متخذ القرار في الإدارات المحلية. إن تفويض الصلاحيات هو آلية من آليات الرقابة والتحكم إذ إنه يقلل من مدى الإشراف وبالتالي فإنه يزيد من قدرة الوزارة على متابعة النتائج وما يتحقق. وأظن أن الوزارة وفي ظل هذا التوجه نحو اللامركزية ستسعى إلى وضع الخطوط العريضة لسياستها ومعايير تحقيقها كما ونوعا والتحقق من تطبيقها وتمنح بعد ذلك الإدارات المحلية الحرية الكافية لتحقيق الأهداف التربوية. إن العلاقة العملية بين الوزارة والإدارات المحلية يختزله المثل الشعبي "ما لنا إلا ولدن يقرأ"، فالعبرة بالنتائج.
وفي هذا السياق سيكون من المناسب تحويل مراكز الإشراف التربوي إلى مراكز تدريب لأن ما يحتاج إليه التعليم العام هو تطوير قدرات ومهارات ودافعية المعلمين وليس زيارات آنية، الغرض منها متابعة شكلية لا تتعلق بسياسة للتطوير وتحديد الاحتياجات التدريبية للمعلمين.
ونافلة القول أن قرار الوزارة قرار حكيم واقعي ينم عن حرص في التعامل مع الأمور بفكر مستنير وسعة أفق وقراءة واضحة لما ينبغي عمله وجرأة في الخروج عن المألوف الذي عادة ما يكبل العمل الحكومي. أتمنى أن تستمر الوزارة في المزيد من اللامركزية وإعادة هيكلة عملية صنع القرار بحيث يمنح مديرو المدارس صلاحيات أوسع، على أن يكون تقييم أدائهم مبنيا على النتائج ومدى نجاحهم في التطوير وليس تطبيق الإجراءات الروتينية دون وعي وإدراك الأهداف الحقيقية التي وضعت من أجله.
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=4409
---------------------------------------------------------------
د. عدنان بن عبد الله الشيحة - 25/12/1427ه**;
تناقلت الصحف أخيرا نبأ مفاده أن وزارة التربية والتعليم قررت إلغاء مركزية الامتحانات النهائية للثانوية العامة، القرار أسعد الكثيرين من المختصين وأولياء الأمور. وكنت قد كتبت عدة مقالات في "الاقتصادية" أدعو فيها الوزارة إلى التخلي عن مركزية الامتحانات، إذ لا يعقل أن تتكلف الوزارة العناء والموارد والوقت من أجل 30 في المائة من المجموع الكلي للدرجة النهائية للطالب، كما أن الشهادة الثانوية بحد ذاتها لم تعد ذات قيمة اقتصادية عالية وتلاشت أهميتها في التوظيف والمكانة الاجتماعية وحتى القبول في الجامعات أصبح يعتمد على قياس القدرات والتحصيل. لقد أثبتت التجارب في السنوات الماضية أن ما كانت الوزارة تحاول تحقيقه من المساواة بين الطلاب وما تخشاه من تسرب الأسئلة وانكشافها قبل الامتحانات كان يقع حتى في ظل المركزية الشديدة والتشدد. لقد أدركت الوزارة أنها لا يمكن أن تستمر إلى الأبد في النهج نفسه الذي لم يعد يصلح في ظل المستجدات والمتغيرات الاقتصادية والسكانية والتقنية. وهذا الاستدراك من الوزارة يحسب لها وتشكر عليه، فكم من الأمور والقضايا الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار التي تواجهنا في المجتمع إلا أن أحدا لا يجرؤ على المساس بها أو يملك الدافعية لتغييرها أو الفكر والرؤية في إدراكها. أعلم أن البعض يستغرب استعظامي هذا القرار وأنه في ظاهره لا يستحق كل ذلك الزخم ولكن من له دراية بالثقافة البيروقراطية وتداخلاتها وتعقيداتها وشبكة النفوذ داخلها يعلم أنه ليس من السهل حتى على الوزير نفسه إحداث التغييرات المطلوبة، فهناك من يتقن تعطيل القرارات وتبطئتها بادخالها في دهاليز الإجراءات الروتينية الملتوية واللجان والاجتماعات المطولة وغيرها من الألاعيب التي يمارسها البيروقراطيون الصامدون كالحجر المتفانون في إبقاء الأشياء كما هي دون حراك لتتحول الإدارات إلى جمادات ساكنة لا تؤثر ولا تتأثر! لقد ذكر الرئيس الأمريكي الراحل نيكسون في مذكراته أنه عندما أصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية اعتقد أن بإمكانه عمل الكثير بحكم منصبه إلا أنه فوجئ بأن ذلك غير صحيح، فالكثير من قراراته تتعطل ولا ترى النور حتى تلك القرارات الفنية (غير السياسية) مثل محاولته نقل وزارة الدفاع إلى مبنى جديد فقد استغرق ذلك فترته الرئاسية الأولى ولم يتم نفاذ قراره إلا في أوائل فترته الرئاسية الثانية! ما أود الإشارة إليه هو أن التنظيم البيروقراطي بطبيعته منغلق وفي جوهره يسعى إلى التقنين والاستمرارية في نهج موحد والاعتماد في ذلك على الإجراءات الروتينية التي يجب ألا يحاد عنها (ظاهريا) قيد أنملة. في ظل القوة التي تكتسبها البيروقراطيات مع مرور الوقت كان لا بد من تدارك ذلك بانتهاج اللامركزية أو على أقل تقدير بالتخفيف من المركزية. إذ إن المركزية تعني تركيز عملية صنع القرار في أعلى الهرم الإداري أو في المركز دون المحليات (الإدارات المحلية). إن تركز السلطة في جهة واحدة مدعاة إلى التسلط والاستفراد بالرأي، إذ إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. والمفسدة هنا لا تعني فقط النواحي السلوكية اللا أخلاقية ولكن التوحد في اتخاذ القرار دون مشاركة الآخرين. التخفيف من المركزية يتيح الفرصة للإدارات في المستويات الأدنى وفي المحليات لتخاذ القرارات بكفاءة وفاعلية إذ هم الأقرب والأعرف بما يجب عمله خاصة في الأمور الروتينية والإشكالات اليومية. إن إعطاء الثقة للمسؤولين في المستويات التنفيذية والإدارات المحلية يجعلهم أكثر تفاعلا مع ما يدور حولهم وأكثر إبداعا لطرق جديدة لأداء الأشياء بشكل أفضل وكذلك أكثر دافعية نحو معالجة ما يواجهونه من تحديات وصعوبات. إنه شعور بتملك القضية والمشكلة وأنه المسؤول عن حلها بشكل واع وليس الاختباء وراء كومة من الإجراءات الروتينية وطبقات من المستويات الإدارية بعضها فوق بعض مسلوب الإرادة مهمش يعمل الأشياء لا يعلم لماذا يعملها ومن أجل ماذا وما الهدف الذي تحققه، وهكذا يتحول المسؤولون في الإدارات الدنيا وفي المحليات إلى "بصمجية" لا حول لهم ولا قوة.
إن الرسالة التي يوجهها وزير التربية والتعليم من خلال هذا القرار الحكيم هو أن التعليم أكثر من امتحانات وأنه حان الوقت للالتفات إلى الأهم وهو التربية وتطوير مهارات الطالب وزيادة تحصيله المعرفي وليس الاهتمام فقط بأدوات قياس تحصيله العلمي. إن الامتحانات جزء من عملية التعلم إذا ما وظفت كما ينبغي كمعلومات مرتدة تعرف الطالب إلى أي مدى حقق أهدافه التعليمية وهي بذلك تدفعه نحو البحث والاستكشاف وتشجعه نحو المزيد. وعندما يكون واضع الامتحانات يبعدون آلاف الكيلومترات عن الطالب ولا يمتون له بصلة لا من قريب ولا من بعيد وفي ظل تطبيق المعايير البيروقراطية على حساب المعايير التربوية تكون الامتحانات من أجل التحدي والتنافس الشخصي بين واضعي الامتحانات والمدرسين وليس بالضرورة لقياس قدرات الطالب. المشكلة التي نواجهها في التعليم أنه تحول من مهنة متخصصة إلى وظيفة يقوم بها أي كان. فالتوقعات التي نحملها عن وظيفة التدريس وطريقة التعامل مع معلمينا الأفاضل حجمت مهنة التعليم ليصبح الغرض منها حشر الطلاب في الفصول وتلقينهم معلومات لا يعلمون لها علاقة بواقعهم بطريقة تسلطية لا تتيح للطالب النقاش والتحاور. وهكذا تنتهي مهمة المدرسة وتكون قد قامت بواجبها التربوي الوطني وهو أن الطلاب تم التحفظ عليهم وحبسهم حتى نهاية الدوام. هذا ليس من قبيل المبالغة فمعظم الطلاب لا يحبذون الذهاب إلى المدرسة لأنها تفتقد عوامل الجذب ولا تحقق احتياجاتهم النفسية والذهنية. في المدرسة يعامل الطلاب كغرباء لا يمتلكون المكان ولا تتاح لهم حرية المساهمة والمشاركة فيما يجري حولهم. الكل داخل المدرسة يتوقع من الطالب أن ينساق وينصاع للأوامر دون نقاش وإلا اعتبر خارجا عن السلوك واللياقة. لقد أصبح الدافع نحو التعلم شكلا ظاهريا وليس دافعا داخليا يهتم باستكشاف الأشياء والتعلم من أجل المعرفة. لقد أصبح الطالب همه الأول والأخير الحصول على الدرجة بأي طريقة كانت حتى لو استدعى الأمر أن يحفظ المعلومات عن ظهر قلب دون أن يفهمها! لقد تولد بذلك مفهوم للتعليم اختزل في التمسك بالشكليات مثل الحضور والانصراف والدرجات دون تحقيق الأهداف الجوهرية والتأثيرات النهائية للتعليم وهو تغير في فكر وميول وسلوك الطالب. إذا لم يحدث شيء من هذا فهناك بكل تأكيد ثمة خطأ ما في العملية التعليمية. إن هذا الوضع شبيه إلى حد كبير بسلوك بعض الموظفين الذين يحرصون على الالتزام بالإجراءات البيروقراطية شكليا فيكون جل اهتمامهم التوقيع في سجل الحضور والانصراف دون التفاني في أداء مهماتهم الوظيفية، لأنه ببساطة لا أحد يعلم ولا يهتم بمستوى إنتاجهم. ومما يزيد الطين بلة عندما يتلبس هذا المفهوم بعض المعلمين خاصة عندما يرى أن تقييم أدائه يأتي روتينيا وتحصيل حاصل ولا يقدم ولا يؤخر في تطويره المهني ولا يفرق فيه بين الغث والسمين يتجذر لديه مفهوم خاطئ عن مهنة التعليم وكيفية مزاولتها وما يجب عليه القيام به. وهكذا يأخذ التعليم مسارا آخر لا يعتمد على المعايير التربوية ولكن المعايير البيروقراطية. إن قرار الوزارة بإلغاء مركزية الامتحانات الثانوية أحسب أنه إشارة جادة إلى تحول الوزارة إلى اللامركزية أو التخفيف منها وهو بلا شك تحول محمود يحمل في طياته الكثير من المعالجات لكثير من القضايا التي يئن من وطأتها التعليم العام. إن اللامركزية وتفويض صلاحيات أكبر للإدارات الدنيا والإدارات المحلية لا يعني بأي حال من الأحوال التقليل من دور الوزارة في التوجيه وإنما هو تحول في طبيعة الدور الذي تنتهجه، فالدور الرئيس للوزارة هو رسم الرؤى ووضع الاستراتيجيات التي هي إرشادات عامة يستنير بها متخذ القرار في الإدارات المحلية. إن تفويض الصلاحيات هو آلية من آليات الرقابة والتحكم إذ إنه يقلل من مدى الإشراف وبالتالي فإنه يزيد من قدرة الوزارة على متابعة النتائج وما يتحقق. وأظن أن الوزارة وفي ظل هذا التوجه نحو اللامركزية ستسعى إلى وضع الخطوط العريضة لسياستها ومعايير تحقيقها كما ونوعا والتحقق من تطبيقها وتمنح بعد ذلك الإدارات المحلية الحرية الكافية لتحقيق الأهداف التربوية. إن العلاقة العملية بين الوزارة والإدارات المحلية يختزله المثل الشعبي "ما لنا إلا ولدن يقرأ"، فالعبرة بالنتائج.
وفي هذا السياق سيكون من المناسب تحويل مراكز الإشراف التربوي إلى مراكز تدريب لأن ما يحتاج إليه التعليم العام هو تطوير قدرات ومهارات ودافعية المعلمين وليس زيارات آنية، الغرض منها متابعة شكلية لا تتعلق بسياسة للتطوير وتحديد الاحتياجات التدريبية للمعلمين.
ونافلة القول أن قرار الوزارة قرار حكيم واقعي ينم عن حرص في التعامل مع الأمور بفكر مستنير وسعة أفق وقراءة واضحة لما ينبغي عمله وجرأة في الخروج عن المألوف الذي عادة ما يكبل العمل الحكومي. أتمنى أن تستمر الوزارة في المزيد من اللامركزية وإعادة هيكلة عملية صنع القرار بحيث يمنح مديرو المدارس صلاحيات أوسع، على أن يكون تقييم أدائهم مبنيا على النتائج ومدى نجاحهم في التطوير وليس تطبيق الإجراءات الروتينية دون وعي وإدراك الأهداف الحقيقية التي وضعت من أجله.
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=4409