المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ذكرى أول يوم توجيه**حكاية تربوية**


 


معتزغباشي
10 - 9 - 2006, 05:20 PM
ذكرى أول يوم توجيه

تحدث إلي موجه اللغة العربية بوزارة التربية
والتعليم ليحكي لي عن موقف حدث له حين
توليه مسئولية التوجيه لأول مرة بالدولة: فقال: كان الوقت كئيباً، فاليوم من أشد أيام سبتمبر حرارة ورطوبة، والمدرسة تعيش في دوامة من متاعب الأيام الأولى من العام
الدراسي: لم يكن احد من الجهاز الإداري
مستعداً لاستقبال زائر أو الدخول في حوار
معه، ولعل أثقل الزوار على المعدة في هذا
الظرف بالذات الموجهون، وهكذا قُدر لي أن
أكون ضيفاً ثقيلاً في هذا اليوم.
كانت المدرسة أول مؤسسة تربوية ادخلها مع بداية عملي بالدولة لم يكن فيها شيء غير عادي يثير الاهتمام. إلا إن أكثر ما كان
يشغلني في تلك اللحظة هو لقاء المواجهة مع مدرس المادة: كان عليّ أن اثبت وجودي
وأخوض الامتحان العسير.
تقدمت بثقة من باب الإدارة الذي لا تخطئه
العين العادية فما بالك بعين تدربت على
التمييز بين الأبواب عاليها وسافلها وأنا مصطنع الهيبة والوقار فواجهني شخص خمنت من هيئته انه المسئول الكبير في هذه المؤسسة،
وخلال برهة وجيزة تم تعارفنا فدعاني
مرحبا إلى الجلوس وقد مني للحضور على أنني
موجه اللغة العربية الجديد:
جرت أحاديث مقتضبة بيننا عن التربية
وهمومها والطلاب ومشاكلهم: ثم استأذنتهم
وطلبت من المدير أن ازور احد الأساتذة
الكرام
حرصا على ترك الانبطاع عني بالجدية
والنظام: رحب المدير بالفكرة وبدا لي أن
طلبي لم يكن مفاجئا، بل مرغوبا فاكتشفت
بفراستي انه فرصة اغتنمها المدير ليتخلص
من إخوان الأنس المرابطين في غرفته بلا عمل في حين أصوات الطلاب تشق عنان السماء.
قال لي المدير متحمساً: سأرتب لك زيارة
لمدرس اعتز شخصيا بكونه في مدرستي.
حمدت الله في سري على أنني ماعدت ثقيلا. وان
زيارتي أصبحت موضع ترحيب وفي الطريق
القصيرة من الإدارة إلى الصف رحت ارتب
أفكاري واخطط لكيفية الجلوس والتصرف داخل الحجرة، ومبادرة الأستاذ بالتحية، والثناء على جهوده في نهاية الموقف الصفي إلى آخر الأدبيات التربوية التي تقتضيها مهنتي.
كان الموقف عاديا، وترحيب الأستاذ مقتضبا، بل أقرب إلى البرود واللامبالاة.
اتخذت مجلسا في ركن قصيّ من الصف أراقب مجريات الدرس وأسجل ملاحظاتي عن نشاط المعلم
والطلاب وطريقة التدريس والتفاعل الصفي.
كانت الحصة إلقاء كلها وهو إلقاء حشد له الأستاذ كل مواهبه في اختيار الكلمات
الجزلة، والعبارات الفخمة التي لا أحسب
أحدا من طلاب صفه فهمها أو اقترب قليلا من حماها.
كان الطلاب كأن على رؤوسهم الطير وكأنهم
يتعرفون إلى أستاذهم للمرة الأولى ولسان
حالهم يقول، ما بال أستاذنا اليوم قد
نضأ عنه ثوبه وارتدي ثوبا مرقطا؟ ألعلة يريد إخافة الزائر القابع في الخلف؟ أم
يريد إدهاشه وإبهاره؟
وفعلا بدأت العيون المفتوحة على سعتها
تتجه إليّ بلسان يقول هل أعجبك أستاذنا؟ هل ملأ عينيك؟ هذا هو الهمام فارس الميدان الذي لا يشق له غبار: وبقيت طوال الحصة
مجلودا بغير سياط: مقموعا بغير آلة أصغي
لخطاب يقرع الأسماع ويزلزل القلوب ودن أن
يجرؤ طالب على المشاركة أوطرح سؤال. وخطر لي وقد أوشك وقت الحصة على النفاذ أن
استأذن المعلم في طرح بعض الأسئلة على
الطلاب لا أختبر مدى استيعابهم لما كان يجلجل به، فأذن لي بامتعاض وشزرني بنظرات يقدح منها الشرر ولا تبشر ـــ والله ــ بخير.
طرحت أسئلة قليلة عن معاني بعض المفردات، وشيء من الأفكار التي وردت في الدرس فلم
أظفر بجواب، ثم أضفت أسئلة أخرى عن
معلومات سابقة فلم يكن الحال أفضل. قدّرت من باب الإحسان بالظن أن الطلاب قرروا
المقاطعة
الشاملة والاعتصام عن الكلام تضامنا مع
أستاذهم فشكرت الأستاذ على ملأ وغادرت
الحجرة أجرجر أذيال الخيبة والانكسار متجها صوب الإدارة.
مكثت غير قليل ريثما استرديت أنفاسي،
وخططت لمرحلة المداولة الإشرافية مع الأستاذ الهمام: بعد لحظات فتح صاحبنا الباب
واقترب مني وألقى بثقله على كرسي بجانبي وقد انتفخت أوداجه كأنه مستعد لنزال: تصنعت الابتسام ورحت أثني على جهوده هادفا إلى
امتصاص حالة الانفعال التي لم تخطئني
بوادرها: والى تهيئة الأجواء لحديث النقد
المقبل بالضرورة: ولكن ما إن شرعت بسوق
الملحوظة الأولى حتى انتفض الأستاذ صارخا في
وجهي: أتريد أن تعلمني كيف ادرس، تفضّل
وأرنا شطارتك.

ليكن في علمك أنني ادرس منذ عشرين سنة ولم ينتقدن موجه.
ثم رمى لي بمجموعة أوراق رسمية قال أنها كتب تقدير تشهد على تفوقه وتميزه. فإذا ببسمة صادقة ترتسم على وجهي، ولم أزد على أن
قلت: استميحك عذراً: لعلي لم أحسن التعبير، كان هدفي من زيارتك الإطلاع على ثقافتك: فلقد أثنى المدير عليك كثيرا وانه على حق
فيما قال. ولكن، هل تسمح بأن نتعاون معا لتنفيذ خطة تجعل الطلاب قادرين على
التحدث بطلاقة مثلك وامتلاك بيان ساحر
كبيانك..
هدأت ثائرة الأستاذ وانقشع غضبه كسحابة
لا تحمل مطراً: وعلا وجهه البشر ونطقت
عيناه باعتذار خفي ثم قال:
يسعدني أن أكون موضع ثقتك وسأكون بجهدي
وفكري في خدمة المصلحة العامة.

معتز غباشي