المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عبدالله الجفري يتعاطف بحميمة مع حديقة الغروب للقصيبي


 


المشتاق
19 - 8 - 2005, 07:37 AM
نص القصيدة الرائعة للقصيبي:

"حديقة الغروب
شعر: غازي القصيبي
خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟
أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا
يحاورونكَ بالكبريتِ والنارِ
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ
سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا
قلبي العناءَ!... ولكن تلك أقداري
***
أيا رفيقةَ دربي!.. لو لديّ سوى
عمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري
أحببتني.. وشبابي في فتوّتهِ
وما تغيّرتِ.. والأوجاعُ سُمّاري
منحتني من كنوز الحُبّ.. أَنفَسها
وكنتُ لولا نداكِ الجائعَ العاري
ماذا أقولُ؟ وددتُ البحرَ قافيتي
والغيم محبرتي.. والأفقَ أشعاري
إنْ ساءلوكِ فقولي: كان يعشقني
بكلِّ ما فيهِ من عُنفٍ.. وإصرار
وكان يأوي إلى قلبي.. ويسكنه
وكان يحمل في أضلاعهِ داري
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكنْ بَطَلاً
لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ
***
وأنتِ!.. يا بنت فجرٍ في تنفّسه
ما في الأنوثة.. من سحرٍ وأسرارِ
ماذا تريدين مني؟! إنَّني شَبَحٌ
يهيمُ ما بين أغلالٍ.. وأسوارِ
هذي حديقة عمري في الغروب.. كما
رأيتِ... مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ
الطيرُ هَاجَرَ.. والأغصانُ شاحبةٌ
والوردُ أطرقَ يبكي عهد آذارِ
لا تتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي
فبين أوراقِها تلقاكِ أخباري
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكن بطلاً
وكان يمزجُ أطواراً بأطوارِ
***
ويا بلاداً نذرت العمر.. زَهرتَه
لعزّها!... دُمتِ!... إني حان إبحاري
تركتُ بين رمال البيد أغنيتي
وعند شاطئكِ المسحورِ.. أسماري
إن ساءلوكِ فقولي: لم أبعْ قلمي
ولم أدنّس بسوق الزيف أفكاري
وإن مضيتُ.. فقولي: لم يكن بَطَلاً
وكان طفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري
***
يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه
وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري
وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به
علي.. ما خدشته كل أوزاري
أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي
أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟ "

"بعد أن أثرى نفسي وروى عطش روحي بقراءتي لقصيدته اللوحة التي نشرتها صحيفة (الجزيرة) صباح يوم 14 من ربيع الآخر 1426هـ 22 من مايو أيار 2**5م.. شعرت أن الشاعر الكبير بإبداعه غازي القصيبي: قد انتشل نفسه، وروحه، ووجدانه، وتأملاته من قاع: العمل، والعمال، والعمالة.. أو كأنه في هذه القصيدة كان يفر من: المادة كذا.. ليبدع لنا قصيدة، ذكرتني بعبارة صاغها الشاعر العصر: نزار قباني، قبل مرضه، فقال:
(اسمحوا لي أن أهرب من السيدة مادونا، لأنام على كتف: رابعة العدوية.. وأن أهرب من مايكل جاكسون، لأجلس تحت قدمي: جدي محيي الدين بن عربي)!!
* فهل نعرف: أين كان يختبئ (الشاعر) غازي القصيبي، كل هذا الوقت الطويل، ليخرج علينا بقصيدة كأنها الوداع للشعر، وللحلم، وللتأمل.. وينادي في منتهاها: رب العزة والجلال، خاشعاً متبتلاً:
( يا عالم الغيب.. ذنبي أنت تعرفه
وأنت تعلم إعلاني.. وإسراري
وأنت أدرى بإيمان، مَنَنتَ به
عليَّ.. ما خدشته كل أوزاري
أحببت لقياك.. حسن الظن يشفع لي
أَيُرتجى العفو.. إلا عند غفار)؟!! ***
* ونتساءل ثانية: كيف استطاع غازي القصيبي أن ينتزع الشاعر في أعماقه من الغرق.. وأن يجفف بلل نفسه من الاستغراق في الأنظمة ويواجه عين الشمس.. وأن يستلقي تحت ضوء القمر ليسكب قصيدة فاجأنا بها، بعد الصبر على هجره للقصيدة؟!!
ولكن.. يبدو أنه (الخوف) الذي تسرب إلى نفسية الشاعر من: تسرب الشباب وإيغال العمر في الستين وفوقها، خمس من السنين.. كأن (غازي) في هذه القصيدة: يرثي نفسه وهو المازال (حيا)، يشاركنا ما نسميها: رعصة ثمالة الشباب!!
وكأنها (نوبة) من النزوع للرحيل.
وكأنها (نوبة) من توجس السؤال عن ال: مقعد الواحد، والسرير المزدوج للزهد في الدنيا وفلسفة البقاء في التلفت، مستحضراً معه مقولة مفكر: (القدمان ثقيلتان لا تتحملهما الأرض، والكتفان كليلتان لا تتحملان السماء)!!
وهكذا يعكس الشاعر هذه الروح المتصوفة الهاربة إلى انعتاق من حركة مزعجة، لعلها تزهد في واقع كثرت فيه الشكوك، وتزاحمت فيه أصابع الاتهام التي توجه إلى: النقاء والوضوح، وتعجز أن تشير إلى: الغموض، والاجتراء على الحق والعدل:
(إن ساءلوك، فقولي: لم أبِعْ قلمي
ولم أدنس بسوق الزيف: أفكاري)!! ***
* وفي هذه القصيدة: يقف الشاعر أمام القدر وجهاً لوجه، يحاول اكتشافه، سؤاله عما تبقى.. وإن مضى فإنه يقول للدنيا وللناس كلهمو، على لسان مَنْ أَحَبَّ:
(وإن مضيت، فقولي: لم يكن بطلا
لكنه لم يقبل: جبهة العار
وكان يمزج أطوارا بأطور
وكان طفلي، ومحبوبي، وقيثاري)!!
* ولن تكون هذه التنهدات تفاعلاً مع الصمت والتأمل، بل ما يشبه الغدو والرواح.. وما يشبه أن يغدو الشاعر وحده: هو وهو.. بكل ما في أعماقه ومراحل عمره وأفكاره من كثرة!
فإذا هو يتخلص من التعلق بالماضي، ويحتحت منه ما كان مشرئباً إليه كأمنية أو حلم. ليحصر التطلع والتأمل في: رجفة إيمان، ليس دافعها الخوف، بل غارسها أمان النفس وهدوؤها.
وهذه المشاعر: لا نحسب أن باعثها الخمس وستون في أجفان إعصار).. لكن الشاعر فيما يلوح يقترب من ذلك (السأم) الذي وصفه في ذات رواية البرتومورافيا، فقال عنه:
(الحياة.. هي الشيء الأهم الذي أحبه بكل جوارحي.. ويتعالى حبي ليبلغ أشده حين أكرهها وأمل منها)!!
ووصفه سعد زغلول فقال: (غطيني يا صفية.. مفيش فايده)!!
وعندما يشيع السأم في النفس، فذلك إنذار يعلن عن: وهن الحوار وهزيمته.. فكيف إذا بلغ السأم مبلغه في الروح، حيث لا ينفع الإنذار، وإنما تلقى (النتيجة) التي تبلور: الإعجاب الحميمي لحظة الغروب و(حديقته)، كما سماها الشاعر عنواناً لقصيدته:
(بلى اكتفيت، وأضناني السُّرى، وشكا
قلبي العناء!!.. ولكن تلك أقداري)!
***
* فهل قصيدة الشاعر هذه: (حديقة الغروب)، تعبر عن (هزة) أحدثها في أعماقه: الإحساس بتكون إنسان آخر؟!
لن يكون السؤال جارحاً، بقدر ما فيه من تفتيش عن أبعاد هذا البوح غير العادي، والسهل غير الصعب، والاستفهام غير الغاية.
وفي بعض أسس الشعر الحديث: التصوير الماورائي لعلنية سر النفس وما تمور به.. يأتي في نسيج كأنه التعبير عن عصر بات يلبسنا فيه الخوف والقلق.. عصر: تخوف منه الشاعر الكبير محمد الفيتوري في عبارته هذه التي تساءل فيها:
(ترى.. ما الذي سيكتب القادمون بعدنا وهم يشاهدون: كيف يتحول المثقف، والأديب، والشاعر إلى: سمسار، وبائع متجول في أسواق البيع والشراء)؟!!
وفي قصيدة (غازي) هذه: كتابة تحفل بأبعاد وألوان صورة من البلاغة السهلة، أو المنسابة بدون مؤثرات صوتية خارجية، إلا ما قرعت به طبول نفس الشاعر، وتاقت فيه روحه إلى النقاء، والشفافية، والبياض الناصع.
ثمة شعراء مبدعون والقصيبي نجم فيهم تتجوهر لديهم (التجربة) عمرا كانت أو موقفا، أو حتى لحظة عابرة.. لتتحول إلى: فعل يسيطر حتى على الإحساس!
فعل.. كأنه الزمن الذي يكتظ بالشعف، ويتظلل بالرفض لشمولية المعاناة (بما هو أقسى من جهل المحبين)!
***
* وفي قصيدة (حديقة الغروب): لوحة.. كأن الشاعر قد صور فيها: ذروة الشعور في نفس تجرعت مصل التعب، ولكنه لم يشخ روحاً.. بدليل: كل هذه (الألوان)، والأبعاد، والظلال التي رسمها في لوحته القصيدة هذه.
لكن (الذروة) الأهم في أبعاد معاني وصور القصيدة: سببها بعض (الأقواس) التي رفض الشاعر في داخلها: الانحناء، والتربيع، والتدوير.. كأنه على امتداد دربه الشعري قد تشكل: شاعراً يحن ويراعي نبوءات خفقه، وقرعات عقله.. حريصاً أن ينثر على هذا الدرب: عطوراً تعبق بالحب، وبأغنية الحنين الدائم للحب، وفيه!!
***
* غازي القصيبي: شاعر قرأناه.. و(أحياناً) معه في لوحاته الشعرية وهو يلملم زهرات: سيقانها من الحلم الذي لا يبرد ولا يترمد.
والسؤال: كيف سمح الشاعر لشعوره أن يتبرج في هذه القصيدة، مفصحاً عن تأثير الخمسة والستين؟!
هل هو: تبرج السأم فيه؟!
هل هو تبرج الخطو الذي يكاد يتثاقل على درب إصراره، وهو يحمل السنين؟!
أحسبه (الولع) ما زال وقد طغى عليه حزنه الماثل اليوم حتى يكاد يجفف الروح. وهو (الخوف) من انحسار الحقول التي أنبتت له مئات الحور العين، وصبايا الحلم!! "


منقـــــــــــــــــــــــــــ(منقول)ـــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــول

نبع الوفاء
19 - 8 - 2005, 07:59 AM
جزاك الله خيرا

على هذه القصيدة الرائعه,,

دمت بالسعادة