المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدرسة بغداد وفن المنمنمات الإسلامي


 


الماستر
31 - 5 - 2005, 03:19 PM
مدرسة بغداد وفن المنمنمات الاسلامي
مازن محمد علي
يمثل فن المنمنمات ما يعرف اليوم بفن الرسوم الايضاحية في كتب العلوم والآداب، ولهذا فالمنمنمة والتي هي رسوم مصغرة تحلّي الصفحة وتضيء النص المكتوب وتحاول ايضاح ما التبس منه بغية الوصول الى هدفه وغايته، فللمنمنمة جانبها التفسيري للنص والايضاحي لما ورد فيه من معلومات. ولها جانبها الفني أيضا لانها تقدم لوحة فنية تحمل المفاهيم الجمالية والصياغات التعبيرية للفكرة. فهي تُجمل الصفحة المخطوطة وتوفر للقارئ متعة بصرية تساعده في استيعاب المعلومات وتدفع به الى التواصل مع النص في رغبة عالية. ذلك انها تجمع جمال الرسوم الملونة وبراعة الخطوط وحُسن تنسيقها مع الرسوم من خلال صياغة مبتكرة.
ان الأهمية المتزايدة لفن الرسوم الصغيرة عند العرب *****لمين قد رجعت الى الارتباط الوثيق بتوسع الحضارة الاسلامية وتعدد المؤلفات والكتب المترجمة واختلاف موضوعاتها وتنافس النساخ على تحلية المخطوطات وتجميلها. كل ذلك ضمن اطار ما حمله الدين السالامي من نظرة جديدة وثورية تتلخص بالدعوة الى الوحدانية ورفضه الشرك بحيث أعيد تنظيم الحياة في المجتمع الاسلامي وفقا لهذا المفهوم الجديد.
لذا قدم الفنانون مفهوما جماليا يرتبط بالوحدانية ويرد كل اشكال الجمال الظاهر الى مفهوم جمالي واحد فالجمال هنا هو الجمال الازلي، الذي يكمن خلف كل جمال مرئي وظاهر، وحتى يتمكن الفنان المسلم من تجسيد ذلك بشكل عملي، ابتكر صيغة "الخط اللامتناهي الحركة" الارابيسك الذي جعل الاشكال ترجع الى مصدر واحد وكذلك الزخارف لأن حركة الخط هي التي توجد الاشكال، وهي التي تحكم بكل ما هو مرسوم، او مزخرف او مصور، وان المصدر الرئيسي هو المطلق اللامتناهي في الحركة، الذي يرد كل شيء اليه، وهكذا رسم المزخرفون زخارفهم بحركة لا متناهية وصوّر الفنانون المنمنمات بتدرجات في حركة الخط اللين، وحركوا ألوانهم عن طريق مفاهيم الاضاءة والتنسيق بين الخط واللون، وتوصلوا الى صياغات رمزية للالوان تعطينا التدرج وتمنح التأليف بمجمله التناغم والحيوية.
ومن المعروف ان فن المنمنمات الاسلامي ينقسم الى مدارس واتجاهات فنية متنوعة تبعا لطبيعة الصياغة الفنية وتوظيف عنصر اللون وتوزيع الكتل والجسوم على سطح الصفحة بالاضتافة الى أثر المكان وموجوداته على رؤية الفنان وتعاطيه مع عناصر الطبيعة المحيطة به، فهناك المدرسة الفارسية والمدرسة المغولية والتركية بالاضافة الى المدرسة العربية التي يصطلح على تسميتها من قبل نقاد الفن بمدرسة بغداد والتي تضم المدن التالية: بغداد والموصل، دمشق، القاهرة، قرطبة، غرناطة.
تأثرت مدرسة بغداد بداية بالفن البيزنطي والفارسي لكن التطور الزمني جعلها تستقل عن هذه التأثيرات وتقدم الاشكال المبتكرة والتي بدت واضحة في التصوير السياسي بشكل خاص، وقد رسمت المنمنمات في هذه المرحلة بدون اطار يحددها ويفصلها عن المخوط من الكلام.
ومن بين مميزاتها الفنية، ان الوجوه ذات ملامح دقيقة ومسلوبة تتخذ شكلا دائرياً، واللحى سوداء داكنة او بيضاء، والعيون كبيرة ذات جفون بارزة تذكر بملامح الوجوه في المنحوتات السومرية والآشورية بينما تكون الحواجب مستدقة ومتقنة تمسك بخط الانف الطويل، ثم تغطى الرؤوس بالعمائم المزركشة. اما الملابس فتكون فضفاضة مزينة بالزخارف والاشكال المرسومة بخطوط لينة متحركة، كذلك تميل الالوان الى البساطة والدقة والبعد عن التكلف والصنعة.
ومن اهم الكتب التي احتوت على الرسوم من هذه المدرسة مخطوط (كليلة ودمنة) وكتاب (مختار الحكم ومحاسن الكلم) و(مقامات الحريري) وكتاب (الاغاني).
نلاحظ في مخطوط كليلة ودمنة الذي دون في غضون عام 12** م انه حافل برسوم الحيوانات والتي صيغت وفق المفاهيم التي ذكرناها. فالفنان قد اهتم بالخطوط اللينة المعبرة وقدم الايقاع الحركي لهذه الخطوط وقد احتوت كل المنمنمات على الصياغة الفنية التي تجعلنا نردها الى "الأرابسك" فكل تكوين يتصل بالآخر ليكون تأليفا متناسقا.
اما كتاب الاغاني الذي رُسم في غضون عام 1317 في شمال العراق والذي يتميز بغنى تفاصيله، فنجد ان المنمنمة المرسومة فيه تتخذ هيئة قطعة قماش مزخرفة. فمثلا نجد احدى المنمنمات تصور الحاكم متوضعا في الوسط يحيط به عدد من وزرائه وهذه الصورة تعبر تماما عن الجو الذي قدمه كتاب الاغاني، فهذا الفنان استوعب اولا مناخ العمل واضاف اليه عدة امور هامة خصوصا في عملية توزيع العناصر على المساحة وتقديم الاشخاص والالبسة المزركشة، وغير ذلك من التفاصيل الغنية. ورغم الاختلاف الظاهر بين المخطوطتين "كليلة ودمنة" والاغاني الا اننا نكتشف وحدة الهدف التي توصلنا اليه. اذ ان القيم الحركية للخطوط الاولى قد استعاض عنها الفنان الآخر بوحدة ايقاعية للمساحات الملونة، اذ تتحول كل مساحة لونية لشخص من الاشخاص الى جردة لونية تعطي ايقاعا خاصا بها، واصبح توزيع المساحات وايقاعاتها هو الاساس في اعطاء العمل الفني الغنى الضروري للوحة، وهكذا اخذ اللون قيمة رمزية ليعكس التفاصيل من خلال حركة الخط وايقاعه واتصاله مع المساحات الملونة.
من هنا تتحقق غاية الفنان في خلق عمل فني معبر عن الموضوع بصياغة فنية مبتكرة تترابط مع الصياغة الموحدة مستفيدة بشكل جيد من الحركة اللامتناهية في الارابيسك، الامر الذي جعل من خصائص مدرسة بغداد انها ذات طابع ريادي اذ لم تنحسر مهمتها في التجديد الشكلي، بل كانت عاملا محرضا للوصول الى عمل متكامل توظف الرسومات فيه كجزء حيوي من بنية النص ذاته، بالاضافة الى تأكيدها على عنصر الهوية الذي يمنح العمل خصوصيته ويكسبه بعدا فنيها يحمل طابع الفرادة وسط مدارس عدة كانت تجاهد للوصول الى صياغة فنية تمنحها ذات الخصوصية.
منــقـــول