المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القلب والعين


 


نبع الوفاء
28 - 5 - 2005, 12:10 AM
مناظرة بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما
لما كانت العين رائدا والقلب باعثا وطالبا ، وهذه لها لذة الرؤية وهذا له لذة الظفر ، كانا في الهوى شريكي عنان . ولما وقعا في العناء واشتركا في البلاء أقبل كل منهما يلوم صاحبه ويعاتبه .

فقال القلب للعين : أنت التي سقتني إلى موارد الهلكات ، وأوقعتني في الحسرات بمتابعتك اللحظات ، ونزهت طرفك في تلك الرياض وطلبت الشفاء من الحدق المراض ، وخالفت قول أحكم الحاكمين : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس ، فمن تركه خوف الله عز وجل أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه ) رواه الإمام أحمد .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( نظر الرجل في محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم ، فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره )

فمن الملوم سوى من رمى صاحبه بالسهم المسموم ؟
أو ما علمت أن ليس شيء أضر على الإنسان من العين واللسان ؟
فما عطب أكثر من عطب إلا بهما ، وما هلك أكثر من هلك إلا بسببهما
فلله كم من مورد هلكة أورداه ، ومصدر رديء عنه أصدراه فمن أحب أن يحيا
سعيدا أو يعش حميدا فليغض من عنان طرفه ولسانه ليسلم من الضرر ، فإنه كامن في فضول الكلام
وفضول النظر وقد صرح الصادق المصدوق بأن العينين تزنيان وهما أصل زنى الفرج ، فإنهما له رائدان
وإليه داعيان ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة
فأمر السائل أن يصرف بصره . فأرشده إلى ما ينفعه ويدفع عنه ضرره .

أو ما سمعت قول العقلاء : من سرح ناظره ، أتعب خاطره ، ومن كثرت لحظاته
دامت حسراته , وضاعت عليه أوقاته ، وفاضت عبراته .

وقال الناظم :

تمتعتما يا مقلتي بنظرة

وأوردتما قلبي أمر الموارد

أعيني كفا عن فؤادي فإنه

من الظلم سعي اثنين في قتل واحد

قالت العين : ظلمتني أولا وآخرا ، وبؤت بإثمي باطنا وظاهرا
وما أنا إلا رسولك الداعي إليك ورائدك الدال عليك ، فأنت الملك المطاع ونحن الجنود والأتباع .

أركبتني في حاجتك خيل البريد ثم أقبلت علي بالتهديد والوعيد فلو أمرتني أن أغلق علي بابي
وأرخي علي حجابي ، لسمعت وأطعت ولما رعيت في الحمى ورتعت ، أرسلتني في صيد قد نصبت
لك حبائله وشراكه ، واستدارت حولك فخاخه وشباكه . فغدوت أسيرا ، بعد أن كنت أميرا
وأصبحت مملوكا بعد أن كنت ملكا .

هذا وقد حكم لي عليك سيد الأنام وأعدل الحكام عليه الصلاة والسلام حيث يقول : ( إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهو القلب ) وقال أبو هريرة رضي الله عنه :
القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده
وإذا خبث خبثت جنوده .

ولو أنعمت النظر لعلمت أنّ فساد رعيتك بفسادك وصلاحها ورشدها برشادك
ولكنك هلكت و أهلكت رعيتك ، وحملت على العين الضعيفة خطيئتك
وأصل بليتك أنه خلا منك حب الله وحب ذكره وكلامه وأسمائه وصفاته
و أقبلت على غيره وأعرضت عنه ، وتعوضت بحب من سواه والرغبة فيه عنه .

هذا وقد سمعت ما قص عليك من إنكاره سبحانه على بني إسرائيل استبدالهم طعاما بطعام أدنى منه ، فذمهم على ذلك ونعاه عليهم ، وقال : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } فكيف بمن استبدل بمحبة خالقه وفاطره ووليه ومالك أمره ، الذي لا صلاح له ولا فلاح ، ولا نعيم ولا سرور ، وفرحة ونجاة إلا بأن يوحده في الحب ويكون أحب إليه ممن سواه فانظر بالله بمن استبدلت ، وبمحبة من تعوضت .

رضيت لنفسك بالحبس في الحش وقلوب محبيه تجول حول العرش . فلو أقبلت عليه وأعرضت عمن سواه لرأيت العجائب ولأمنت من المتالف والمعاطب ، أو ما علمت أنه خص بالفوز والنعيم من أتاه بقلب سليم . أي سليم ممن سواه ، ليس فيه غير حبه واتباع رضاه .

قالت : وبين ذنبي وذنبك عند الناس كما بين عماي وعماك في القياس . وقد قال من بيده أزمة الأمور : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } الحج : 46
فلما سمعت الكبد تحاورهما الكلام وتناولهما الخصام قالت : أنتما على هلاكي تساعدتما وعلى قتلي تعاونتما.

ثم قالت : أنا أتولى الحكم بينكما ، أنتما في البلية شريكا عنان كما أنكما في اللذة *****رة فرسا رهان، فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي وإن لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار وإلا فما لك من قرة ولا للقلب من قرار .

اتمنى أن تكون المناظرة أعجبتكم

من روائع ابن قيم الجوزية

عاشق الاسلام
28 - 5 - 2005, 07:36 AM
جزاك الله خيرا ُ

فعلا ً موضوع متميز

نبع الوفاء
8 - 6 - 2005, 05:45 PM
مشكور على مرورك الذي زاد موضوعي تميزاً